لا أدري ماذا سيقول الذين يقوم تحليلهم للعلاقة بين
إيران وأمريكا على أساس التفاهم واقتسام مناطق النفوذ، وعدائهما المشترك ضد السنّة، بعد
اغتيال اللواء قاسم
سليماني وأبو مهدي المهندس ومرافقيهما؛ لأن هذا الاغتيال يرفع العلاقة بين الطرفين إلى مستوى الحرب، وليس مجرد اغتيال أو عملية عسكرية عابرة. فأهمية قاسم سليماني ودوره يفوقان أهمية أي قائد عسكري أو سياسي ودوره، ومن يغتال قاسم سليماني كمن يُعلن الحرب، أو كمن يشن حرباً.
ولذلك فكل من لا يدركون عمق العداوة بين أمريكا وإيران، وناهيك عن الذين يظنونها إيجابية وتشاركية، عليهم أن يعيدوا حساباتهم مع هذا الحدث الجلل إذا كانوا حريصين على احترام عقولهم وعلاقتهم بالسياسة والحرب، واحترام الواقع والوقائع. وهذا لا علاقة له بموقفهم من إيران أو من مشروع المقاومة الذي قاده قاسم سليماني، سواء أكان ضد الكيان الصهيوني أم كان ضد أمريكا؛ لأن المسألة تتعلق بفهم الواقع كما هو في ما يتعلق بفهم أو تقويم العلاقة بين أمريكا وإيران، أو بين الكيان الصهيوني وإيران.
فاغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس ومرافقيهما (عشرة) يكشف عن علاقة تصل إلى حد الحرب التي لا تبقي ولا تذر، وإن لم تصل إلى ذلك الحد بعد.
هذا في تقدير مستوى الضربة وخطورتها وأهميتها بالنسبة إلى الطرفين: المعتدي الأمريكي المجرم الظالم، والمُعتدى عليه إيران المظلومة في هذا
الصراع ضد أمريكا والكيان الصهيوني.
على أن هذه الضربة من جانب أمريكا وإن بدت "رابحة" بمقياس أهمية قاسم سليماني ودوره على المستويين الإيراني والعام، كما أهمية أبو مهدي المهندس على مستوى الحشد الشعبي والعراقي الخاص، ولكن من ناحية نتائجها المباشرة على الأرض فإنه منذ اليومين الأولين، أو الأيام الثلاثة الأولى، كانت خسراناً فادحاً على أمريكا، الأمر الذي يعني بالنسبة إلى الحسابات الأمريكية قراراً خاطئاً، بل في غير وقته ومكانه كذلك.
الدليل الأول ما عبرت عنه الجماهير العريضة وراء الجنائز وضخامتها، وما مثلت في كلٍ من العراق وإيران، الأمر الذي وجه ضربة سياسية قاسية لكل ما كانت أمريكا تراهن عليه من تطورات داخلية، سواء أكان في العراق أم في إيران. لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول "بيننا وبينكم الجنائز يا أهل البدع"، فجاء الرد الجماهيري الواسع في جنائز الشهداء دعماً صارخاً للموقف المقاوم ضد أمريكا والكيان الصهيوني.
أما الدليل الثاني والفوري والتلقائي، فقد جاء من البرلمان العراقي حين أصدر قراراً بتوجيه من عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء والقائد العام، بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وذلك من خلال إنهاء ما كان معقوداً من اتفاقات حول ذلك الوجود. وبهذا أصبحت القوات الأمريكية في العراق احتلالاً غير شرعي يتوجب عليها الرحيل، أو مواجهة مقاومة مشروعة رسمية وشعبية لا قِبَل لها بها.
وبهذا، ماذا تكون أمريكا قد أنجزت في العملية الإرهابية التي وجهت إلى اللواء قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، نائب قائد الحشد الشعبي، ومرافقيهما (وبينهم رتب عالية)؟ إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وما أدراك ما يعني ذلك وما بعده؟
إلى هنا لا تكون ردود الفعل والنتائج الأخرى القادمة لهذه العملية غير المحسوبة جيداً؛ قد ظهرت بعد.
لا يهم في السياسة، وفي الحرب وفي إدارة الصراع، ما هي الدوافع أو الأسباب التي دعت إلى اتخاذ هذا القرار أو ذاك، فهذا شأن يهم أصحابه ليبرروا فعلتهم، أو للتهرب من ارتكاب الخطأ أو الحماقة.؛ لأن الحكم عليه يستند إلى النتائج العملية والواقعية، الآنية والمستقبلية.
إن النتائج الفورية التي جنتها إيران وجناها العراق من هذا الاغتيال، وذلك على المستوى الشعبي في البلدين أولاً، وعلى مستوى إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق ثانياً، وبالرغم من فداحة الخسارة، تجعل القرار الأمريكي (والصهيوني) دليلاً جديداً على مستوى التخبط والارتباك في السياسة الأمريكية. وهذان ناتجان عن تدهور الوضع الأمريكي والتراجع في ميزان القوى، وعن الفشل المتكرر في أهم القضايا التي تواجهها وتعالجها على المستويين العالمي والإقليمي. وهذا شأن المُدبر إذ تلاحقه الأخطاء أيضاً.
فعلى سبيل المثال، جاء قرار الاغتيال نتيجة حدثين رئيسيين سبقاه: الأول ما شعرته أمريكا من إهانة حين اقتحمت (جزئياً) قوى شعبية السفارة الأمريكية في بغداد، ولم يُنقذها من المأزق غير تدخل الحكومة العراقية لإبعاد تلك القوى من محيط السفارة. ثم جاءت المناورة العسكرية الثلاثية غير المسبوقة (الروسية- الصينية- الإيرانية) لتشكل تحدياً قاسياً لدونالد ترامب والبنتاغون، وذلك في الوقت الذي راهنا فيه على تركيع إيران من خلال الحصار الخانق للحد الأقصى، مما يعني عدم نجاح الحصار في تحقيق المطلوب منه.
وهنا كان لا بد من فعل شيء يستعيد الهيبة، ويرد الاعتبار، فكان التسرع في الإقدام على فعلٍ مدوٍّ من دون حساب جيد لنتائجه. طبعاً كانت هنالك أسباب متراكمة سنة بعد سنة للتخلص من القائد قاسم سليماني الذي واجههم في كل جولة من الجولات، وفي كل مكان احتدمت فيه مواجهة، وأخطرها ما كان في مواجهة الكيان الصهيوني.
طبعاً لن يكون كافياً ما حدث من ردٍ شعبي هائل في كل من العراق وإيران أولاً، ولن يكون كافياً ما أصدره البرلمان العراقي لإخراج قوات أمريكا وحلفائها من العراق ثانياً، لأن مرحلة تاريخية كاملة فتحت الأبواب على مصاريعها في الصراع الذي عبّر عنه هذا الاغتيال الزلزال.
فعلى سبيل المثال، إن تحرير العراق من الوجود الأمريكي سواء تحقق بسلاسة، أم من خلال مقاومة شرسة، سيؤدي بدوره إلى مزيد من الإخلال في ميزان القوى في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني. فالعراق، وما سيجري فيه، له ثقل مقدّرٌ بما يمكن أن يحدث من تغيير استراتيجي في ميزان القوى في المنطقة.
ومن هنا يجب أن يسجل هذا البعد إلى البعدين الأولين اللذين نجما فوراً نتيجة الخطأ الفادح الذي ارتكبه دونالد ترامب والبنتاغون. وستدفع أمريكا الثمن غالياً، وأكثر بكثير مما احتسبت.
في السابق، قبل السنوات العشر الماضية، كان الجواب لدى أمريكا والكيان الصهيوني إزاء أي تحدٍّ لهما حتى لو كان دون هذا التحدي بدرجات من حيث مستواه العسكري، هو الحرب لحسم الصراع. هذا ما حدث مع جمال عبد الناصر في الخمسينيات عندما شنت حرب العدوان الثلاثي 1956 عليه، وهو ما حدث معه في حرب العدوان 1967، وهو ما حدث مع المقاومة الفلسطينية في حرب 1982، وهو ما حدث مع العراق في 1990/ 1991، وفي 2003، ومع لبنان في 2006، ومع قطاع غزة (ثلاث حروب حتى الآن).
إن الصراع الدائر بين أمريكا وإيران، كما بين الكيان الصهيوني وإيران، لا يُحسم وفقاً للتقليد التاريخي الأمريكي والصهيوني مع منطقتنا؛ إلا بالحرب. ومع ذلك احتدم على مدى السنوات الثلاث أو الخمس الماضي، دون أن يصل إلى حرب، كما حدث في الماضي مع مصر وسوريا والعراق والمقاومتين الفلسطينية واللبنانية. ويرجع السبب في هذا التأجيل في الحرب إلى ما حدث من تغيير في ميزان القوى العسكري لم يعد يسمح بشن حروب سريعة، ومحققة لأهدافها كما الماضي. فثمة خوفٌ وحذر شديدين اليوم من الحرب الشاملة من جهة أمريكا والكيان الصهيوني. ولهذا يعيش هذا الصراع الآن تحت السعي من قبل الجميع لتجنب الحرب الشاملة، فيما لا حل له إلا بها، أو القبول من جانبهما بمعادلة ميزان قوى تتطور في غير مصلحتهما.