احتفلت تونس منذ يومين بالذكرى التاسعة لثورة الحرية والكرامة التي غيرت وجه تونس وغيرت وجه المنطقة وأحدثت فيها فعلا اهتزازيا لا تزال رجاته الارتدادية تتفاعل في كامل المنطقة العربية. نجحت تونس في تفادي المهاوئ التي سقطت فيها تجارب إقليمية أخرى، حيث نجحت قوى الثورات المضادة في إحداث انقلابات دموية على المسارات الثورية وعلى السلطة الشرعية المنتخبة وأعادت النظام القديم في مصر وتسعى إلى إعادته بقوة السلاح في ليبيا.
نجحت تونس بإمكانياتها المتواضعة في إنجاح أكثر من مناسبة انتخابية وأرست سلطة برلمانية رئاسية لا تزال تتحسس طريقها نحو إرساء نموذج ديمقراطي تعددي يمنح النور لأول التجارب الديمقراطية العربية. لكن من جهة أخرى تواجه القوى الثورية في مهد الربيع العربي فيالق الثورة المضادة الوريث الشرعي للنظام الاستبدادي. وهي قوى تعمل دون كلل عبر فواعلها العميقة المتمترسة في مفاصل الدولة والإدارة على إسقاط التجربة التونسية وإلحاقها بمنوالات الفشل العربي الأخرى.
تأصيل الثورة زمانا ومكانا
بخلاف كل ثورات الربيع التي تستمدّ تاريخها من يوم انطلاقتها دأب الإعلام التونسي المرتبط بمنظومة العصابات والعائلات الحاكمة إلى تعمد إلى ربط تاريخ ميلاد الثورة بيوم هروب الطاغية بن علي نحو السعودية، أي يوم 14 كانون ثاني (يناير) 2011 بدل تاريخ 17 كانون أول (ديسمبر) 2010. قد يبدو الأمر تفصيلا صغيرا لا قيمة له لكنه في الحقيقة إجراء خطير لا يختلف عن تزوير شهادة ميلاد أو عن أي نوع آخر من أنواع التزوير، بل يمكن القول إن تزوير تاريخ الثورة فعل خطير يرتقي إلى مطاف اغتيال الذاكرة وتزوير التاريخ.
الاعتراف والإقرار بزمان الثورة الحقيقي ومكانها الحقيقي هو فعل تاريخي ضد إمكان التدليس والسطو ونهب الذاكرة.
كل مشروع سياسي لا يقوم على أولوية محاربة الفساد بشكل جذري إنما يمثل في الحقيقة تمديدا لمرحلة الارتهان التي تعاني منها تونس
هذا الخطاب الهام يفتتح خط المواجهة التي تعلنها رئاسة الجمهورية على منظومة العصابات وشبكات الفساد وغرف المؤامرات التي ضربت المسار الانتقالي وأثرت فيه بعمق خلال السنوات الأخيرة. هذه المواجهة المؤجلة صارت اليوم ضرورة حتمية ومسألة وجودية أمام توحش الثورة المضادة وخروجها بمشاريعها الانقلابية إلى العلن مدعومة بالمال العربي الممول اللانقلاب وراعيه الرسمي.
إن التباطؤ في مواجهة شبكات الفساد أو التراخي في محاسبة العصابات السياسية والنقابية والإعلامية يمثل تهديدا صريحا لكل انتقال ديمقراطي ممكن في تونس. إنّ عملية التطهير والمحاسبة التي سكتت عنها الحكومات المتعاقبة هي في نظرنا السبب الأساسي لما آل إليه الوضع هناك مع تصاعد التهديدات الاقليمية في الجوار المضطرب مشرقا ومغربا وعلى الحدود.
ما يريده الشعب اليوم هو الضرب بيد من حديد على كل المتلاعبين بمصير الثورة ومصير أجيال بكاملها لا تزال تقف مصدومة من عجز الدولة عن تطبيق القانون ومحاسبة كل أشكال التخريب المتعمد. هذا الشعب الذي صار اليوم يعرف كل دهاليز الدولة العميقة خاصة بعد انكشاف خلية " الوردانين الإرهابية" وما كشفته التصريحات الخاصة بها عن أسماء رجال أعمال وإعلاميين وسياسيين متورطين في شبكات التسفير وفي العمليات الإرهابية التي ضربت تونس خلال السنوات الأخيرة.
المخارج والمآلات
لا يختلف إثنان اليوم في تونس على أن الاقتصاد هو أولى الأولويات وأنّ تخفيف الاحتقان الاجتماعي الذي قد يتحول إلى بركان منفجر لا يتم إلا عبر خطة اقتصادية تعيد الأمل في إنجاح المسار الثوري وتدعم الانتقال الديمقراطي. هذا الإجماع يشمل أيضا الوعي بفساد الطبقة السياسية والتشكيلات الحزبية التي عجزت خلال ما يقارب عقد من الزمان عن تحقيق قدر أدنى من المطالب الاجتماعية الملحة بل راكمت الفساد وشجعته وتحولت إلى جزء منه.
هذا الوضع هو الذي يفسر المرارة الشديدة التي تعبُر كافة شرائح المجتمع وتعبّر عن يأس وإحباط شديدين من تآكل الطاقة الشرائية وتوحش رأس المال وتفشي البطالة. الفساد وشبكات التهريب والنهب والتهرب الضريبي والإثراء غير المشروع تمثل الخطر الحقيقي الذي يمنع كل محاولة إصلاح اقتصادي قادرة على أن تنتشل البلد من الوضع الكارثي الذي وقع فيه.
بناء عليه فإن كل مشروع سياسي لا يقوم على أولوية محاربة الفساد بشكل جذري إنما يمثل في الحقيقة تمديدا لمرحلة الارتهان التي تعاني منها تونس وهو يعني أيضا تشجيعا لمجاميع النهب على مواصلة تهديد الأمن الاقتصادي والاجتماعي بما هو أساس الأمن السياسي.
لقد كان أول شعارات الثورة التونسية " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق " وهو الشعار الذي يعكس وعيا اجتماعيا وجمعيا بمصدر تخلف البلاد وتدهور قطاعاتها جميعا. وهو أيضا الشعار الذي يختزل كل شعارات الثورة وكل مطالبها بشكل يتجاوز بؤس النظريات السياسية والشعارات الايديولوجية الجوفاء التي تنعق بها النخب الاستبداد التونسية.
لن تتحرر تونس ولن يتحرر شعبها وثورتها من براثن الثورة المضادة ما لم تواجه شبكة العصابات التي لا تزال تتحكم في مفاصل الدولة وما لم تقتلع جذور الفساد المتمدد. إن الانتصار في الحرب على "عصابة السرّاق" هو الشرط الوحيد القادر على نقل التجربة التونسية من مرحلة الشك والارتهان إلى مرحلة التأسيس والفعل.
ليبيا.. تطور العمليات القتالية في ظل الاستقطاب الدولي