يواصل الكاتب، والباحث الفلسطيني، أحمد الدبش، في الجزء الثاني، من قراءته لكتاب "إشكالية الدولة الإسلامية: تصور الحركات الإسلامية المعاصرة"، للباحث معين محمد الرفاعي، حيث يتناول هذا الجزء، نظرية "ولاية الفقيه" التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران.
الفصل الخامس: "الدولة الإسلامية"، في تصوّر الثورة الإسلامية" في إيران
يتناول المؤلف بالتفصيل نظرية "ولاية الفقيه"، التي جاءت بها الثورة الإسلامية في إيران، محاولاً الوقوف على الخلفيات التاريخية للنظرية، انطلاقاً من مفهوم "الإمامة" لدى الشيعة الإثني عشرية، التي تعتبرها "من أصول الإسلام المسلمة" (ص 388).
وبحسب المؤلف، فان كتاب "كشف الأسرار"، للأمام الخميني، "هو الكتاب الوحيد الذي خصّصه للحديث عن الإمامة" (ص 389). فالإمامة "شأنها حفظ القانون، وبيانه، وتعليمه للناس، وأنها رفيقة النبوة من أوّل يوم، وحتى آخر لحظة من عمر الرّسول" (ص 393).
يرى المؤلف، في كتابات علي شريعتي، تطوراً في مفهوم الإمامة لديه، ففي كتابه (معرفة الإسلام)، "يرى شريعتي، أن "الشورى" هي أحد المبادئ القرآنية في الاجتماع السّياسي(...) أما علي بن أبي طالب، فقد وصل إلى الخلافة عبر استفتاء شعبيْ عام(...) ولكن محرر الكتاب المذكور (معرفة الإسلام يقول) أن المرحوم شريعتي يؤكد في مكان آخر (كتاب الأمّة والإمامة) أنّ القيادة المدعومة قرآنياً (الشورى) تأتي بعد أصل الإمامة" (ص 394). فـ"الإمامة بمفهوم شريعتي، هي: رسالة القيادة، وسوق المجتمع، والفرد" (ص 395). و"يرفض شريعتي فكرة الفصل بين موقع (الإمامة) و(الخلافة)" (ص 398).
و"يذهب شريعتي إلى حدّ رفض أن يكون للنبيّ جانبان جمعهما في شخصيته: النبوة والإمارة(...) ويرفض أن يتقلد الحكم، في زمن الإمام، شخص آخر غيره" (ص 399). و"ينتقد شريعتي الديمقراطية، متسائلاً عمّا إذا كانت أرقي أشكال الحكم حقاً، وتصلح لكل المجتمعات، وتقف فعلاً إلى جانب مصالح الجماهير، والطبقات المحرومة ،والمختلفة في كل مكان" (ص 400). ويخلص شريعتي إلى أن "قاعدة الحكم الديمقراطي، تتناقض مع قاعدة التغيير، والتقدم الثوري، والقيادة الفكرية (...) ويدعو إلى استبدال الحكم الديمقراطي الحرّ الذي يتسلّم زمام الأمور بأصوات الجماهير، ولا يلتزم أمامها إلا بإدارتها على ما هي عليه من عادات، وسنن، وخصوصيات اجتماعية، بديمقراطية ملتزمة" (ص 401).
من جهته، يرى مرتضى مطّهري، أحد رموز الثورة، وأحد منظّريها الأساسين، أنّ "للإمامة ثلاثة مراتب، هي: قيادة المجتمع، والمرجعيّة، الدّينية، والولاية" (ص 402). ويرى مطّهري، "أن عصمة الأئمة تصبح ضرورة" (ص 403). فالولاية ـ بحسب مطّهري ـ هي "ذروة مفهوم الإمامة" (ص 405). فالإمامة عند مطّهري، "عهد الله، ويشكّل عهد الله، مدخلاً للنفاذ إلى قيادة المجتمع، أو الحكومة" (ص 408).
أما مرشد الثورة الإسلامية الحالي، آية الله علي خامنئي، يوضح في سلسلة محاضرات بعنوان (الولاية والإمامة)، أن "الاعتقاد الشيعي حول ولاية الأئمة يتمحور حول ولاية وليّ الله، كولاية عليّ بن أبي طالب، وباقي الأئمة الإثني عشر" (ص 412). وفي مقالته الثانية، بعنوان: (العلاقات المهيمنة على الأمّة الإسلامية)، "يجعل خامنئي من الولاية مدخلاً للوحدة الإسلامية" (ص 413). ويعود، في المحاضرة الثالثة، لاستخدام مصطلح "(ولاية الوليّ) لوصف المركز الذي ينبغي أن تدور حوله الأمّة الإسلامية(...) فلا بدّ أن يكون عالماً، واعياً، مأموناً،(...) ويحدد خامنئي مستويين للعلاقة مع الولي: المستوى الفردي، والمستوى الاجتماعي(...)، مؤكداً على أنّ التولي والولاء الفردي، هو الارتباط، والتّبعية المُطلقة للوليّ(...) أما المستوى الاجتماعي،(...) يصبح الأمر والنهي بيد الأمام" (ص 415 ـ 416).
في كتابه (الحكومة في الإسلام)، يميز خامنئي بين عهدين: عهد الأئمة، وعهد زمن غيبة المعصوم، "في العهد الأوّل، فإنّه يتم تعيين الحاكم في المجتمع الإسلامي من قِبّل الله، وليس للناس دور في اختياره. أما في زمن الغيبة، فإنه من المناط في (تعيين) الحاكم، قبول الناس به، واجتماع كلمتهم عليه" (ص 417).
وينظر خامنئي إلى الحكومة الإسلامية على أنها "امتداد لحاكمية الله، وامتداد للولاية، والسّلطة التكونية(...) كما ينظر إلى ولاية الحاكم الإسلامي على أنّها امتداد للولاية الإلهية، وولاية الأنبياء" (ص 418).
يناقش المؤلف، الفكر السياسي الشيعي في إيران عشية الثورة، ويستعين بعده مراجع، منها كتاب (السلطة في الإسلام)، للكاتب عبد الجواد ياسين، وكتاب (إيران من الداخل) للمفكر فهمي هويدي، ويتطرق إلى كتاب (الدين والفكر في فخ الاستبداد) للرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، وأيضاً كتابات مرتضي مطّهري. ص(420 ـ 456).
ينطلق الخميني من نظرية (الإمامة) للتأسيس لـ (ولاية الفقيه)، وذلك في كتابه (الحكومة الإسلامية). وفكرة الكتاب الأساسية هي: "ضرورة نهوض الفقهاء لتشكيل حكومة إسلاميّة، في زمن الغيبة الكبرى المستمر(...) ينتقل الخميني، إلى مناقشة فكرة أساسية في الفكر الدّيني عموماً، وهي فكرة (ضرورة الحكومة الإسلامية)" (ص 460).
في الواقع، "إن جزءاً كبيراً من كتاب (الحكومة الإسلامية) يناقش ضرورة قيام الحكومة الإسلامية(...) بناء على أطروحات الفكر السياسي لدى المدرسة الدّينية الشّيعية، التي تؤمن أنّ الحكومة الإسلامية لا ينبغي أن تقوم إلا على يد الإمام المهدي، بعد ظهوره" (ص 462).
يستعرض الخميني مجموعة من الأدلة على ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية، التي يمكن إجمالها كما يلي: "أن مجموعة القوانين وحدها لا تكفي لإصلاح المجتمع، فلا بدّ من سلطة تنفيذية ـ وضرورة استمرار تنفيذ الأحكام في زمن الغيبة ـ وطبيعة قوانين الإسلام التي لا سبيل لوضعها موضع التنفيذ إلا بوساطة حكومة ذات أجهزة مقتدرة ـ وضرورة إنقاذ المحرومين الذين تستنزف الدول الجائرة ثروات بلادهم ـ ضرورة حفظ النظام ومنع الظلم والتّجاوز ـ ودفع اعتداء المعتدين وإعداد القوّة اللازمة لذلك. ويؤكد الخميني فكرته بضرورة تشكيل حكومة إسلامية، حتى ولو لم يكن على رأسها إمام" (ص 463).
ومن الأسباب التي يؤكد عليها الخميني للتدليل على ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية، "الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في مواجهة المشروع الغربي الاستعماري، الذي فتّت الأمة الإسلامية" (ص 465).
ومن اللاّفت أيضاً أن الخميني، "قد بنى على قضية إجماع المسلمين للتّدليل على ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية" (ص 466). ويقصد الخميني بلفظ (الدستور)، بأنه "مجموعة الشّروط والقواعد المبينَّة في القرآن والسّنّة" (ص 467). و(الحاكمية)، عند الخميني، "هي حاكمية الله (...) فحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشّرع وحده لا سواه، وحكم الله نافذ في جميع الناس، وفي الحكومة نفسها" (ص 468).
ويرى الخميني، أن الحكومة الإسلامية يديرها (حاكم) ينبغي أن تتوفّر فيه شروط نابعة من طبيعة الحكومة الإسلامية، فهناك شروط عامة "كالعقل، والبلوغ، وحسن التدبير، هناك شرطان مهمان، هما: العلم بالقانون الإسلامي، والعدالة" (ص 469). يحدد الخميني في (كتاب البيع)، (ولاية الفقيه) بأنها "ولاية عامة" (ص 471). وبحسب المؤلف، "تشكّل نظرية ولاية الفقيه، كما صاغها الخميني، فرصة للتقارب بين النّظريّتين السّنّية، والشيعية، وتوسع نقاط التّلاقي بينهما، وتضيّق نقاط الاختلاف في حدود معيّنة" (ص 485).
الدستور الإيراني ونظرية ولاية الفقيه
يعتبر الدستور الإيراني، الذي وضع أثناء الثورة، وتم إقراره في استفتاء عام 1979، ومن ثم التعديل الذي أدخل عليه، بأمر من الخميني، وتم الاستفتاء عليه وإقراره بعد أشهر من وفاته، يشكّل القالب النّظري لولاية الفقية، في مرحلتها العمليّة والتطبيقيّة.
تنص مقدمة الدستور الإيراني صراحة على تبنّي (ولاية الفقيه) كأساس لنظام الحكم(...) كما تنص المادة الخامسة منه على أنّه: في زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه) تكون ولاية الأمر، وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتّقي، البصير بأمور العصر؛ الشجاع القادر على الإدارة والتدبير(...) تنص المادة الأولى من الدّستور، على أن "نظام الحكم في إيران جمهوري إسلامي" (ص 487 ـ 488).
ووفقاً للنظام الجمهوري، "يتولّى رئيس الجمهورية والوزراء، ممارسة السلطة التنفيذية باستثناء الصلاحيات المخصّصة للإمام القائد مباشرةّ، بموجب الدستور(...) لا يّردُ لفظ (الدّيمقراطية) مطلقاً في الدّستور، غير أنّه يقرّ آليتين من الآليات الدّيمقراطية، وهما: الانتخاب والاستفتاء العام" (ص 489).
أما السلطة التشريعية، فهي "سلطة قائمة، ومنفصلة عن باقي السّلطات، على نحو ما هو معمول به في باقي الدّول الحديثة. على أنّ هذه السلطة، وإن كانت منفصلة عن السّلطتين القضائية والتنفيذية، إلا أنّها لا تتمتّع باستقلال مطلق، حيث أنّها مقيّدة في عملها بالقائد، وبمواد دستورية أخرى(...)فمجلس الشّورى الإيراني، ليس هيئة تشريعية على النّمط الغربي، بل هو مقيّد بما يضمن مواءمة التشريعات التي تصدر عنه مع الفقه الإسلامي المعمول به في الجمهوريّة" (ص 490).
أما كيفيه انتخاب (الولي الفقيه) أو القائد، بحسب التسمية المعتمدة في مواد الدستور. "إن الدستور قد أوكل هذه المهمّة إلى "مجلس الخبراء"، الذي يُنتخب أعضاؤه من قبل الشعب بشكل مباشر" (ص 492). فمهمة انتخاب القائد "لم تعد مسألة بين الفقهاء، بل عن طريق انتخاب غير مباشر من قبل الشّعب" (ص 493). إن دور "مجلس الخبراء" لا يقتصر على اختيار القائد، بل إنّ من مهامّه أيضاً، الإشراف على أعماله، وصلاحية عزله، في ظروف معينة" (ص 495).
استحدث الدستور، مؤسسة استشارية للقائد، تواكب مهامه، هي "مصلحة تشخيص النظام"، وأن وظيفتها الأساسيّة "تتعلق بحل الإشكالات التي يمكن أن تقع بين (مجلس الشّورى الإسلامي) و(مجلس صيانة الدستور)" (ص 496). أما العلاقة بين (القائد) و(رئيس الجمهورية)، كما يرسمها الدّستور الإيراني. يمارس "رئيس الجمهورية لصلاحياته التنفيذية الموسعة، تحت إشراف (القائد)" (ص 502). واستعاض الدستور الإسلامي عن "(الديمقراطية) بالشورى" (ص 503). يعلق المؤلف على التطورات التي لحقت بنظرية (ولاية الفقيه)، أنها "بقيت محافظة على جوهرها، المتمثل في إدارة (الولىّ الفقيه) للشأن العام، وفقاً لأصول وقواعد الفقه الإسلامي" (ص 504).
يتطرق المؤلف، إلى مواقف المراجع الدينية من (ولاية الفقيه) بعد انتصار الثورة الإسلامية (ص 505 ـ 517). يخلص المؤلف، إلى أن "النقاش بين المراجع الدّينية، هو نقاش في (ولاية الفقيه)، وليس عليها (...) فلا يدور النقاش حول ما إذا كان من حقّ الفقيه التدخّل في عمليّة إدارة المجتمع أم لا، بل حول ما إذا كان كونه فقيهاً يعطيه صلاحيات أوسع، يستمدّها من البُعد الديني لصفته، وليس البُعد السّياسي للمنصب" (ص 517).
يناقش المؤلف، تطور (ولاية الفقيه) في كتابات وخطابات مرشد الجمهورية الإيرانية الحالي، على خامنئي، فقد ناقش خامنئي، مسألة "ولاية الفقيه"، في عدد من كتبه التي تضمّنت مجموعة من محاضراته، ولا سيّما في المحاضرات التي ألقاها في عامي (1433 هـ/ 2012م و1434 هـ/ 2013م)، والتي جُمعت في كتابي (الفكر الأصيل) و(الإمامة والولاية في الإسلام). (ص 518).
"يندرج مفهوم (الإمام)، عند خامنئي ضمن الولاية(...) والولاية تعمل على شدّ المجتمع بعضه إلى بعض، فيجعله كالفولاذ(...) فالوليّ(...) هو الحاكم في هذا المجتمع، وهو الذي يضع المجتمع في طريق الله وصراطه، وهو من الذّاكرين لله في كلّ الأحوال، وهو المقسّم للثروة والمال بالحقّ، وهو الذي يسعى إلى نشر الخير والصلاح، وقلع جذور الفساد، والظلم، والجهل. وبذلك يصبح (الولّي/ القائد/ الحاكم)، هو التعين العملي لـ(حاكميّة الله)" (ص 520 ـ 521).
يشدّد خامنئي على أن "الحكومة حقُّ يعود للناس؛ وتفويضه للأشخاص لا يُتاح إلاّ من خلال منحهم هذا الحقّ لهذا، أو ذاك
*كاتب وباحث فلسطيني
إقرأ أيضا: جذور أزمة الدولة الإسلامية المعاصرة.. تاريخ ومفاهيم
جذور أزمة الدولة الإسلامية المعاصرة.. تاريخ ومفاهيم
عبد الإله بلقزيز يشرح أمراض السياسة في العالم العربي
الدّين والسّياسة في الفضاء المغاربي.. دراسة تاريخية