فرحة لم توصف صاحبت ولادة "إسلام"
الطفل البكر للفلسطينية دعاء اشتية من مدينة نابلس قبل سبع سنوات، لتبدأ بعدها
دروس الأمومة الطبيعية بسعادة غامرة مع زوجها وحياة عائلية بدت مثالية في ذلك
الوقت.
لكن الظروف توالت لتصبح دعاء واحدة من النماذج
التي تجرعت القهر وقابلته بالصبر والمثابرة حتى تتمكن من تحمل ما حل بها، فحين وصل
طفلها إلى عمر ثمانية أشهر بدأت تلاحظ أنه مختلف عن أقرانه، ثم أكمل عامه الأول
وتجددت لديها الشكوك بأن إسلام يعاني من أمر ما.
وتقول اشتية لـ"عربي21" إنها وكأي أم
توجهت إلى الطبيب لتتعرف على أسباب تأخر طفلها في تعلم المشي، وسبب عدم انتباهه
لمن يناديه أو التفاعل كما بقية الأطفال؛ لتُفاجأ بميل الأطباء نحو تشخيص طفلها
باضطراب التوحد.
في البداية كان الأمر غريبا على الزوجين اللذين
يمران في أول تجربة تربيةٍ على الإطلاق، ولكن الأمل لم يفارقهما في التغلب على هذا
الظرف القاسي، وبدأت رحلة العلاج الأولي أو على الأقل محاولة ذلك.
وتوضح دعاء بأن إسلام كان متعلقا بوالده بشكل
كبير ويستجيب أحيانا لمداعبته وحديثه ويفضّل اللعب معه قبل أن يخلد للنوم، حيث
شكّل الوالدان فريقاً لمواجهة هذا الظرف الاستثنائي الذي طرأ على حياتهما.
ومع إتمامه عامه الثالث تم تأكيد التشخيص بأن
إسلام يعاني من اضطراب طيف التوحد وما يرتبط به من اضطرابات حسية وفرط الحركة،
وهنا علم والداه أن أمامهما طريقا طويلا مع العلاج ومحاولة تسهيل التأقلم ما بين
إسلام والعالم الخارجي.
ولكن الحسابات التي وضعتها دعاء كانت مختلفة
قليلاً عن الواقع، فقد تخيلت أن مشوار العلاج سيكون سهلا بمساعدة زوجها كامل حمران
الذي ينحدر من مدينة جنين، لتتفاجأ باعتقاله عام 2015 لدى أجهزة الأمن الفلسطينية
دون تهمة.
وتوضح بأن اعتقال زوجها كان عائقا كبيرا أمام
تحسّن حالة طفله؛ حيث انعكس الاعتقال عليه سلباً وأصبح يبكي بشكل متكرر دون أن
تعرف والدته كيف تتصرف، فلجأت إلى مؤسسات حقوق الإنسان المختلفة وإلى نشطاء
وحقوقيين للسعي لإطلاق سراح زوجها، كما أنشأت حملة إلكترونية آنذاك للمطالبة
بالإفراج عنه كي يكملا معاً مشروع العلاج الذي وضعاه نصب أعينهما.
ومرت الأشهر بينما يقبع الوالد في سجن أريحا
الذي مكث فيه لخمسة أشهر، وخلالها ساءت حالة إسلام بشكل كبير وأصبحت دعاء تتشبث
بإيمانها فقط كي يتغير هذا الوضع الصعب، وبينما هي تحاول الاتصال بالمحامين تلقت
اتصالا من زوجها ليخبرها أنه أفرج عنه وأنه سيتوجه فورا من أريحا إلى منزله في
شمال الضفة.
وتضيف:" لم تكد الدنيا تسعني من الفرحة،
تخيلت أن كل الآلام زالت فجأة وأن إسلام عاد ليبتسم وبدأت أحضّر المنزل لاستقبال
زوجي وألبستُ طفلي أجمل الثياب لاستقبال والده، لأتفاجأ باتصال آخر من الرقم ذاته
يخبرني فيه كامل أنه رهن الاعتقال لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي التي اعترضت طريقه
على حاجز زعترة العسكري جنوب نابلس بعد خروجه من سجن أريحا، وهناك توقفت كل
الكلمات وتوقف الحلم وتسمّرت مكاني وباتت الدموع هي اللغة الوحيدة التي قابلت بها
طفلي فبادلني اللغة ذاتها".
مشوار صعب
أيقنت دعاء أن عليها شق هذا الطريق بنفسها
وبتشجيع زوجها القابع في زنازين القهر الإسرائيلي، فقررت أن تصمد في وجه التحديات
وبدأت مشوار العلاج من جديد لطفلها، وكانت رزقت قبيل اعتقال زوجها بطفلة جديدة أسمتها
"خديجة" التي لم تتجاوز بضعة أشهر حين سُلب الأب من العائلة.
وتبين دعاء بأن التحدي الأصعب كان الاعتناء
بطفلتها وفي نفس الوقت الاعتناء بشكل خاص بإسلام دون الانتقاص من حق شقيقته في
الرعاية الكاملة، لتوزع وقتها كاملا بينهما دون أي فرصة يتيمة للراحة.
عام وبضعة أشهر أمضاها زوجها في سجون الاحتلال؛
وخلالها كانت تحاول إيجاد مراكز متخصصة لمتابعة حالة طفلها والاعتناء به، وبقيت
تكافح لأجل حصوله على أفضل فرصة للعلاج لتصطدم بواقع أطفال التوحد.
وتقول:" المشكلة أنه في الضفة الغربية
توجد القليل من المراكز التي تعتني جيدا بهؤلاء الأطفال، فوجدت أنني أدفع تكاليف
باهظة مقابل جلسات لا تكاد تفيد طفلي في شيء، فهو لا يستطيع الاعتماد على نفسه في
أي شيء ولا يتمكن من الحديث أصلا رغم أنه بلغ عامه السابع الآن، ولكن المراكز التي
توجهت إليها كانت تخلط أطفال التوحد مع الأطفال الذين يعانون من متلازمة داون
وغيرهم من الذين يعانون صعوبة في نطق بعض الأحرف، ويخضعون لجلسة واحدة جميعا دون
التمييز بين حالاتهم".
وفي نهاية عام 2016 أفرج الاحتلال عن زوجها؛
ليعود بعض الدفء للعائلة ويستكملا معاً علاج طفلهما ومحاولة توفير بيئة مناسبة
خالية من التنغيصات.
وفي قاموس دعاء اعتُبر عام 2017 عاما ذهبيا
كونه كان خاليا من الاعتقالات لزوجها، وخلاله تحسن وضع إسلام وأصبح قادرا على
التمييز بين الأشياء ومتفاعلا مع والده الذي يظهر حبه له دون انطواء كما كان يفعل
عادة.
ولكن تحت ظل الاحتلال لا تدوم الفرحة أبدا؛ حيث
عاود اعتقال الوالد في الربع الأول من عام 2018 وما زال إلى الآن ينتظر المحاكمة
مع احتمالية أن يمضي بضع سنوات أخرى في الأسر.
وتؤكد دعاء بأن اعتقاله الحالي كان بمثابة قتلٍ
للعائلة ومحاولة من الاحتلال لتثبيت الحزن والقهر عليها وعلى طفليها وخاصة إسلام.
التحدي الأكبر
حملت هذه المرحلة الجديدة الكثير من التحديات
لدعاء التي بقيت تتوجه لمراكز العلاج وتحاول استسقاء أي طرف لخيط يساعد في تحسن
حالة طفلها، وخلال ذلك أدركت أن الوضع المعيشي يكاد ينهار بسبب اعتقال زوجها ودفع
تكاليف كبيرة على مراكز العلاج.
وتؤكد بأن هذا الوضع لم يرق لها أبدا فبدأت
بالتقدم لشهادة الدبلوم في التصوير الفوتوغرافي حتى حصلت عليها في ظل ظروف قاسية
ساعدتها فيها عائلتها التي احتضنت إسلام وقدمت له الرعاية اللازمة.
ولم تتوقف عند هذا الحد؛ حيث افتتحت مشروعا صغيرا
خاصا بها للتصوير كي يساعدها على تحمل تكاليف عائلتها الصغيرة كسيرة الجناح.
وتقول:" بدأت أقف على قدميّ وشعرت بأنني
أمسكت بزمام الأمور وتغلبت على هذا الظرف القاهر، ووزعت وقتي بين العمل ومراكز
العلاج التي أضع فيها إسلام خلال وجودي في عملي، وبين زيارات السجون ومحاولة إبقاء
الخيوط موصولة مع زوجي الذي تغيبه الزنازين".
كبر عمل دعاء وأصبحت مصورة مشهورة في مدينة
نابلس لتستقبل الكثير من الزبائن وتواصل الليل بالنهار لتأمين حياة مقبولة
لعائلتها، أما التحدي الآخر فكان بالنسبة لها أن تُفهم طفلتها بأن شقيقها مختلف عن
بقية الأطفال وأن تلعب معه على هذا الأساس، وألا تغضب منه لسلوك ما، وهي رحلة شاقة
كانت وما زالت خاصة وأن طفلتها صغيرة في رياض الأطفال.
وفي شهر أغسطس الماضي تسلّمت دعاء طفلها من أحد
المراكز كما تفعل يوميا لتُصدم بوجود آثار اعتداء على جسده، بينما هو يبكي بلا توقف
غير قادر على شرح ما حدث فهو كالطفل الرضيع ما زال لا يستطيع الكلام.
وتقول:" تفاجأت بوجود آثار أظافر مغروسة
في رقبته وبقايا دماء على جسده فجن جنوني وتوجهت للمركز وسألت عما حدث لتكون
الكارثة الكبرى بأن معلمته قامت بمعاملته بطريقة غير إنسانية، وهناك أدركت أنني
كنت أضعه في مسلخ وليس في مركز علاجي فلم أتردد في رفع شكوى ضده ولكن المماطلة
كانت سيدة الموقف لأن المعلمة التي تبين أنها لا تحمل شهادة متخصصة في التعامل مع
هؤلاء الأطفال؛ لها معارف في السلك القضائي، ولا أخفي أنني يومها فقدت بصري لمدة
ساعة من كثرة البكاء على طفلي العاجز الذي تعرض للتعنيف دون ذنب فهو لا يستطيع
التكلم أبدا، أما الضرر النفسي الذي لحق به فأكبر وأسوأ من الضرر الجسدي، حيث أصبح
يبكي أكثر ويستيقظ ليلا عدة مرات وهو يبكي كالخائف، كما أصبح يضرب نفسه إذا ظن أنه
فعل شيئا خاطئا وكأنه فهم أنه يستحق الضرب".
ومنذ ذلك الوقت أخرجت دعاء طفلها من مراكز
العلاج بانتظار وعود متجددة بقبول إسلام في أحد المراكز المتخصصة، ولكنها تضطر
يوميا لاصطحابه معها إلى عملها ما يصعّب عليها القيام بوظيفتها.
وما زالت دعاء تحاول تقديم العلاج المستمر
لإسلام لمساعدته على الاعتماد على ذاته، حيث لا يتمكن من القيام بأي عمل وحده
كتناول الطعام أو قضاء حاجته أو ارتداء الملابس، كما يعاني من اضطرابات حسية
ويتضايق من ملمس مختلف الأجسام ومن حالات الجو المختلفة لدرجة أن يستيقظ خلال
الليل مرات عدة ولا يتمكن من النوم، فتصحو معه وتبقى مستيقظة حتى يعود للنوم من
جديد وهكذا.
وتضيف:" حالة إسلام صعبة فأنا كل ما
أتمناه أن يعتمد على نفسه وأن يبدأ بالكلام، فإذا كان يريد أن يتناول الطعام يحضر
لي صحنا وإذا أراد أن يشرب الماء يحضر لي كوبا؛ وإذا أراد تناول الحلوى يحضر كيسا
ويهزه أمامي، وغير ذلك فهو يبكي ويصرخ في إشارة إلى أنه متضايق أو متألم".
أما بالنسبة لوالده فلا يستطيع زيارته في السجن
لأنه ينزعج للغاية من إجراءات الاحتلال المضايقة للأهالي وساعات الانتظار الطويلة،
فهو يحب النظر إلى صوره ولكنه لا يحب الاستماع إليه وكأنه يرفض ضمنياً بعد المسافة
بينهما.
وحين سألنا دعاء عما تراه بعد خمس سنوات من
الآن أو ما تطمح في الوصول إليه حينها؛ قالت إنه من الصعب عليها حتى تخيل ذلك لأن
واقعها قاس أصلا، ولكن إذا أرادت أمنية فهي أن يتقدم إسلام بالعلاج وأن يعتمد على
نفسه بالواجبات الحياتية الأساسية وأن تُمحى السجون من قاموس العائلة لتعود سوية
تركز اهتمامها على علاج إسلام.
وتختتم قائلة:" ظروف أطفال التوحد في
فلسطين صعبة جدا في ظل افتقارنا لمراكز متخصصة وخبراء متخصصين في هذا المجال
لمساعدة الأهل، فأنا كنت ألجأ لشبكة الإنترنت للبحث عن طرق ووسائل للتعامل مع
إسلام ولكن غيري من الأهالي يجب أن يحصلوا جميعا على مساعدة كافية للتعامل مع
أبنائهم، كما يجب توفير ظروف ملائمة للتعامل مع هذه الحالات ولكن بالطبع فالاحتلال
يلقي بظلاله على كل شيء".
هل تنهي التهم الموجهة لنتنياهو حياته السياسية؟
عربي21 يرصد آراء الفلسطينيين بالضفة بشأن الانتخابات (شاهد)
تحالف أمريكا البحري.. هل يُطفئ توترات المنطقة أم يشعلها؟