أصحاب النظرة الحدّية للأمور الذين لا يستطيعون رؤية
أي شيء إلا بالأبيض والأسود؛ يحصرون الثورة في نوعين متمايزين يلتقيان، فهي إما ثورة
مدنية سلمية بيضاء أو ثورة عسكرية عنيفة دموية، وهذا ما يفوت أي مظهر نجاح تستطيع الثورة
تحصيله لاختلاف مفاهيم الناس وتباين رؤيتهم له، فهذا يراه إبداع وذاك يراه جريمة!!
للاستدلال على ما أود الكتابة عنه آخذك قليلا لقصة سيدنا
موسى الرسول التي أوردها القرآن في أربع وثلاثين سورة تذكيرا وتعليما إجمالا وتفصيلا،
وأبطالها الفرعون الطاغية الذي يدعي الألوهية، وموسى وهارون اللذَان تحملا رسالة الله
لفرعون، وشعب موسى الضعيف المقهور الذي كتب الله له النصر والتمكين، رغم ما بأبنائه
من ضعف واستسلام وتعوّد على إطار العبودية المرسوم.
موسى الذي خرج من المدينة خائفا يترقب بلا نصير أو سند،
والذي ربما لو تباطأ قليلا ولم يخرج مسرعا لربما كان أول من نهض لقتله، إرضاء لـ"لإله"،
الملك هم أهله وعشيرته من بني إسرائيل، حتى لا تهتز قواعد معادلتهم مع الفرعون فيزيد
عليهم البطش والتنكيل، إذ كيف يجرؤ رجل منا على قتل أحد أتباع "الإله"؟
بعد عشر سنوات قرر العودة لبلده مشتاقا، واختار الله
له الرسالة مع العودة، وكلّفه بما يفوق طاقته من دعوة الفرعون "الإله" للإيمان
بالله، والكف عن طغيانه والنزول من برج ألوهيته!!
يا إلهي.. كيف؟
هنا أتوقف عن سرد القصة تفصيلا، لكني أنتقل لطرح بعض
الأسئلة للاستدلال على ما أردت الكتابة عنه.
هل عاد موسى خالي الوفاض بتكليفه الصعب ذلك؟
الإجابة قولا واحدا: لا.. فقد عاد موسى (بعد أن ضم أخيه
بجواره نبيا رسولا) محصنا بتسع آيات، أبرزها وأقواها "العصا" كأدوات يقف
بها في وجه الفرعون، يناضل بها عن حجته ويقيم بها ثورته على الملك "الإله"!!
دولة الفرعون المشهورة بالسحر جاءها موسى من جنس ما تتقن
ومن شكل ما تسوس به الناس. والثورة كذلك يجب أن تمتلك من جنس ما يمتلكه الطاغية، حتى
تكسره وتراغمه وتخرج له في يوم زينته للمنافسة والإحراج، فضلا عن النصر وتأليب الأتباع.
حُشر الناس ضحى وحشدوا طاقتهم ولبوا نداء رجلين؛ أحدهما
يسوسهم بمنطق "الإله" الذي يقول للشيء كن فيكون قهرا وبطشا وإذلالا، والثاني
بالكاد يطالب لهم بحقوق البشر التي لم يجربوها من قبل، كما لم يختبروا في الوقت ذاته
قدرته بعد على إنجازها لهم.
وجاء موسى في الموعد المحدد، لكن تخيل معي ماذا لو كان
المشهد كالتالي:
وقف موسى في صفوف بني إسرائيل في بـ"مدرجات"
المشاهدين، ثم قال بمنتهى الشجاعة والفصاحة وقوة المنطق: "يا فرعون إن للكون إله
يجب أن تؤمن به وتعود عن غيك، فأنت مجرد عبد وكلنا عبيد ولا يحق لك قهرنا و و و.."،
خطبة عصماء عن الحق والباطل، وعقيدة الألوهية والولاء والبراء وبيد خالية من أي أداة
ينازل بها السحرة، عندها لربما أجهز عليه قومه إرضاء لمليكهم قبل أن تصل إليه يد حرس
الملك (الإله).
لكن أول ما كان في جعبة موسى بعد (شعوره بالخوف والرهبة
وبعد تطمين الله له) هو تلك العصا المبهرة التي يلقيها لتخرج منها حية ضخمة تسعى، فتلقف
ما يأفكون. فلم تبطل سحرهم أمام الجمهور الحاشد فحسب، بل ألقت في روع السحرة إيمانا
ورعبا في قلب الملك (الإله)!!
هنا كانت شرارة الثورة التي فتحت الطريق لأسئلة كانت
حراما على أذهان الناس (قناعة أو خوفا).. هل من الممكن أن يُهزم الإله؟ هل يخاف كما
نخاف؟ هل يجرؤ أحد على منازلته ثم يعود لبيته آمنا؟ هل يستطيع أحد أن يحرج الإله؟
مئات الأسئلة فجرها مشهد واحد تم الاستعداد له بعناية،
وحاز أغلب أدوات الإبهار المتاحة وقتها. بعدها بدأت الثورة تعتمل في النفوس، وأولها
هدم الصنم في النفوس وكسر حاجز الخوف منه في القلوب، رغم استمرار إحكام سيطرته عليهم
بشكل ربما أفظع من ذي قبل. فالسحرة قد قُطعت أرجلهم وأيديهم من خلاف قبل أن يصلبوا
ويقتلوا، وزادت يده الباطشة على بني إسرائيل.
لكن لعل السؤال المنطقي هنا: إن العصا معجزة إلهية، فكيف
تسقطها على ما تريد الاستدلال به هنا؟
لن أغرق في شرح صنوف معجزات الرسل والفوارق الجوهرية
بينها، ولماذا لم يؤمر موسى بما أمر به لوط وهود وصالح، بخروج الفئة المؤمنة لتهلك
الفئة الكافرة؟
نعم العصا معجزة والمعجزات انتهى زمنها ولن تتكرر، لكنها
عبرة ومثال لمن أراد أن ينازل الفرعون وينتصر عليه.
لتكون المعادلة أنه إذا أردت الانتصار على الفرعون المستبد
عليك أولا أن تُنزله من مكانته التي استسلم الناس لها، وأن تمتلك من أدوات الثورة عليه
حتى لا تنهزم فتنهزم معك القيمة التي تحمل والأتباع الذين صدقوك.
الثورة لتقوم إذاً تحتاج لأدوات؛ أهمها الأمل المبهر
والحشد المنظم والوعي المنضبط والقائد الثائر (أو الطليعة المتفقة المتجانسة) والأدوات
المناسبة والطريق المرسومة الواضحة، ويتأخر النصر بقدر تأخر الثورة في حيازة أي من
عناصرها أو أدواتها.
لكنها في الوقت ذاته تتوقد تحت الرماد وتستكمل ملفاتها
تباعا، فتكسر الصنم مرة، وتنجح في الحشد مرة، وتمتلك الوعي وترسخه، وتفرز الطليعة وتختبرها،
وتحوز الأدوات المناسبة وتتقن استخدامها، حتى إذا استجمعت ذلك وحانت لحظة من لحظات
الثورة انتصرت.
الخلاصة أن تقسيم الثورات لمدنية سلمية وأخرى عسكرية
دموية تقسيمات ملتوية لا تمت للواقع بصلة؛ فالثورة هي فعل إنساني جمعي يمتلك أدواته
بانضباط ومعرفة وتمكن، ولعل أهم ما تحتاجه ثورتنا اليوم.. عصا وطليعة وقائد.
يا مصريين.. أدركوا اللحظات الفارقة
نظرة تأملية في أطراف معادلة الثورة المصرية
بعد حراك 20 سبتمبر.. المشهد والسيسي إلى أين؟