منذ دولة الموحدين التي ترسمت فيها السنية الأشعرية، وقبلها دولة المرابطين التي كانت أقرب إلى السنية السلفية الحالية، رغم بعض انحرافات المجسدة والمشبهة، تشكلت السلفية السنية في الجزائر والمغرب الكبير، وتمكنت من تربة هذه المنطقة، حتى لاحت بشائر الثورة الإصلاحية الدينية مع العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، في ظل دولة الاستعمار قبل أقل من مائة سنة من الآن.
لكن أن تنتهي هذه السلفية العريقة بالجزائر، إلى حدود الزوايا "المدخلية"، ثم تكون حصريا في دائرة ما بات يعرف في الجزائر بـ"الفركوسية" نسبة الى الشيخ علي فركوس زعيم التيار السلفي الجديد بالجزائر، فهنا يحتاج الأمر إلى وقفة مع التاريخ والتطور الفكري الذي صاحب تلك التحولات.
غياب السلفية السياسية
لا يوجد في الجزائر حاليا تقريبا ولا حزب سياسي واحد بخلفية سلفية، فمنذ حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ذات المرجعية السلفية في آذار (مارس) 1992، اختفت السلفية السياسية بالكامل (بعيدا عن بقايا السلفية الجهادية التي تلفظ أنفاسها في الجبال)، في مقابل تعويضها بالسلفية العلمية، بينما تمتلئ الساحة بأحزاب التيار الإخواني، الذي يفرخ عددا معتبرا من الأحزاب والحركات ذات المرجعية الإخوانية، بسبب وقوف هذا التيار، وعلى رأسه حركة "حمس" بقيادة الراحل مفوظ نحناح، مع منظومة الحكم عقب الانقلاب العسكري ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ السلفية في كانون ثاني (يناير) 1992، بما فسر بأنه رد جميل السلطة للإخوان المسلمين (لاحظ أن العكس هو الذي جرى في مصر، العسكر انقلب على الإخوان والسلفية ممثلة في حزب النور دعمته).
وقد حاول الشيخ عبد الفتاح زرواي، رئيس ما يسمى حزب "جبهة الصحوة الحرة" السلفي بالجزائر، الذي هو قيد التأسيس منذ سنوات طويلة، أن يجرب حظه، للحصول على الاعتماد الرسمي إلا أنه جوبه بالرفض، حيث ترى الجهات الوصية أن هذا يعد مفارقة يظهر فيها السلفيون فهما من جهة من ينكرون العمل السياسي والتحزب على أساس أنه يزيد في فرقة وتشتيت الجماعة ومن جهة أخرى يتقدم فصيل منهم بطلب اعتماد لتأسيس حزب سياسي، والغريب أن من يتقدم لهذا الأمر يدعي أن دوافعه إصلاحية ولا علاقة لها بالسلطة والمناصب وهي من بديهيات العمل السياسي، أما العمل الخيري فلا يتطلب تأسيس حزب سياسي بقدر ما هو في حاجة لجمعية خيرية.
وتتوجس السلطات الجزائرية من التنظيمات السلفية منذ أحداث الجبهة الإسلامية للإنقاذ.. بعد الخراب الذي طال البلد وسقوط 250 ألف قتيل، وترى أنه لا يمكن الاطمئنان للتنظيمات الدينية السلفية في الحقل السياسي بحكم أنها تستسهل إدانة المخالفين لها بالحكم عليها بالتكفير... كما أنها تنزع بطبعها إلى الاقصاء والإعجاب برأيها وتنزيهه عن الخطأ بحجة أنه مستمد من شرع الله وهنا يحدث الصدام...
أشداء على المسلمين رحماء على العلمانيين
ويرى الباحث في القضايا الإسلامية عماد بن عبد السلام أن مشكلتنا اليوم مع بعض السلفيين في الجزائر، وحتى في غيرها، هو تقديس لشخص الشيخ ربيع المدخلي والأخذ بكل أقواله وكأنه معصوم، حتى نتج لنا شباب يخالف أهل السنة في الطاعة في المعروف إلى تقديس الحاكم، وأن لا ينكر على منكر فعله الحاكم بدعوى حتى لا يحدث خروج وفوضى. غير مبالين بإنكار المنكر والأمر بالمعروف ما أنتج لنا فصيلا شبابيا أعلى طموحه حكم علماني حنين لا يجبرهم على حلق لحاهم ويتركهم يصلون غير مكترثين لقضية تحكيم الشرع.
ويفصل عماد عبد السلام في حديث لـ "عربي21" الأمر، بأن هذا النوع من السلفيين يسكتون سكوتا غريبا تجاه العلمانيين، بينما كل شأنهم إسقاط الدعاة وحتى السلفيين الذين يختلفون مع الشيخ ربيع في قضايا اجتهادية مع بعض الدعاة بحجة أنه حامل لواء الجرح والتعديل، ويصبون جام غضبهم على جماعة الإخوان ويحملونها سبب تدهور الأمة وكأنها أيضا السبب في ثقب الأوزون.
ويؤكد عماد عبد السلام، بحكم خبرته بعالم الجماعات الإسلامية في الجزائر، أن جماعة مدرسة الشيخ ربيع وأتباعها في الجزائر لا تدور عليهم السنة والسنتين إلا وأسقطوا داعية كانوا يبجلونه وفي نفس الفترة تطلع أسماء جديدة، فالقوم بالكاد تكون عندهم الفرقة سنوية.
أما مسألة طاعة الحاكم الظالم الفاجر في المعروف فلم يأت بها ربيع المدخلي، فقد دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة ويمكن هنا الاطلاع على كتاب الإمارة من صحيح مسلم وبهذا يقول ابن باديس وإخوانه.. ضاربا أمثلة بأن الشيخ البشير الإبراهيمي لما حدث النزاع بعد الاستقلال رجع من مصر للصلح ودعا للشورى فقد ظلم وسجن ولم يدع للخروج بل صبر واحتسب، وكذلك حصل مع عبد اللطيف سلطاني فرغم نقده للفكر الشيوعي والسلطة يومها إلا أنه لما أراد بوجمعة عيايدة ونحناح فتوى لقتل بومدين قال لهم إن ذلك حرام.
ويؤكد عماد عبد السلام أن قضية الحاكم المتغلب انتشرت أكثر بعد صدور كتاب الشيخ عبد المالك رمضاني حول الحاكم المتغلب وهو قول لابن تيمية وصديق حسن خان كما ذكر الألباني رحمه الله، موضحا أن طاعة الحاكم عموما والمتغلب أيضا ليس تقديسا له وإنما اتقاء لشره وسفك الدماء ودفع أهون الضررين بالضرر الأكبر.. وطاعة الحاكم عند السلفيين تكون طاعة في المعروف وليس طاعة في المنكر لأنه لا طاعة في معصية الله.. وهذه الطاعة في المعروف لا يعني كما يفعل البعض السكوت عن إنكار المنكر وتنبيه ونصح الرعية بعدم الانجرار وراءها.
من "استبداد المشيخة" إلى "سلفية وطنية" منتظرة
أما البروفيسور بوزيد بومدين، أستاذ الفلسفة بجامعة وهران والباحث في القضايا الإسلامية، فيرى أن السلفية ترتبط بموجات الصحوة الإسلامية في الجزائر، لكنها ظلت مرهونة للسلفية الجهادية التي تدعو لقيام الدولة الإسلامية، وبعد زوال الحلم بها في التسعينات واشتداد قوة "الإخوان المسلمين" سوف تنتشر "السّلفية العلمية" كرجاء ينقذ السلفيين من وحْل السياسة وكي لا تطالهم السلطة يعتمدون فتوى فقهية نبتت في مجتمعات مَلكية تختلف تاريخاً وسياسياً وبيئة عنَّا وهي "عدم جواز الخروج عن الحاكم" ومنع العمل النقابي والحزبي والسياسي، لكنهم يُصرون على احتلال الفضاء المسجدي، والآن يهتمون بفضاء الجمعيات الدينية والثقافية ونشر الكتاب والتجارة فيه، كما أنّ تحررهم من الوظيفة واعتمادهم العمل الحر وجلب رجال الأعمال عوامل تقوي قاعدتهم المالية والاجتماعية.
لكنه يستردك أن هذه العوامل قد تكون قوة في نشر مذهبهم الذي يرونه هو "السنة الصحيحة" وقد تكون عوامل تضعفهم في المستقبل لكون حركة الأموال غير المراقبة في الجزائر لن تبق هكذا كما أن قانون الجمعيات الدينية المنتظر صدوره قد يكون مكبلاً لحركتهم.
ويفصل البروفيسور بوزيد بومدين لـ "عربي21" القضية بالإشارة إلى أن النزاع داخل "البيت السلفي" سواء في بلدانه الأصلية أو في الجزائر سيزداد سوءا لأن بعض مشايخهم في حاجة إلى تأويلات جديدة وفتاوى نازلة تتكيف مع تطورات في الخليج وأزمات الشرق الأوسط.. وقد لاحظنا كيف أن "التأويل المدخلي" لجواز دخول الجيش الأمريكي في حرب الخليج الأولى من طرف شيخ ربيع المدخلي محمد أمان الجامي، ومنذ دعوا إلى الجهاد مع حفتر في ليبيا، وهذا التيار يعتمد "التجريح" كأسلوب جدالي ضدّ خصومهم خصوصاً الإخوان المسلمين، ولذلك تورط بعض مشايخهم هنا في إخراج الإخوان والصوفية والأشاعرة من "أهل السنة"، وهذا غياب الإدراك في الفرق بين أوضاعنا وأوضاع مصر والسعودية والخليج، وهذا عامل ثالث في غياب الرؤية الواقعية الحصيفة، وسبب ذلك عامل رابع في "التبعية المطلقة" لمشيخة سلفية خليجية ـ مشرقية التي بسببها شقّت صفوفهم هنا في الجزائر منذ أشهر، فتحولت مجموعة الإثني عشر إلى فرق قدد وكأننا أمام "النِّحل" التي تحدث عنها كتّاب الفِرق والملل كيف افترقت إلى عشرين أو أكثر.
ويخلص البروفيسور بومدين إلى أن عوامل ضعف وانحصار هذا التيار أكثر من عوامل بقائهم بهذه القوة النسبية الآن، كما أن بعض أتباعهم بحكم التطورات الجديدة في المشرق وأيضاً بحكم رغبة أفراد منهم في الاطلاع والتثقيف وتوفر وسائل التواصل والكتب المتنوعة سيتحررون من "استبداد المشيخة" فنكون أمام توجّه "سلفية وطنية" تتعايش مع المالكية والتصوف وكذلك مع الحداثة .
سبحان مغير الأحوال
لعلها تكون أكثر الصور غرابة وتناقضا، حينما كانت سلفية "التسعينيات" الثورية، التي كانت تصنع الحدث، وتدور حولها أحاديث السلطة والتمكين، مع "سلفية اليوم" وقد انزوت في ركن بعيد من المشهد، ليس فقط لا تشارك فيه، وإنما تبدع (من البدعة) كل حركة أو "حراك" ثوري"، وإن كان بعدد 20 مليون من الجزائريين في الشارع الحالمين بالتغيير والعيش في كنف الحرية وإسقاط الاستبداد.
كانت سلفية الجبهة الإسلامية، التي اكتسحت صناديق الانتخابات، ووضع الشعب فيها ثقته، تلامس مطامحها بناء "الدولة الإسلامية" وقد كانت على مرمى حجر حينها، قبل الانقلاب العسكري، وكانت جموع المتظاهرين والمعتصمين تدك الأرض دكا من تحت أقدام المنظومة الحاكمة، وها قد وصلنا إلى سلفية "لايت"، يتم عبرها تسفيه ثورات الشعوب ضد الطاغية، ويكفي أن تقرأ جزءا من نص الفتوى في هذا الاتجاه للشيخ فركوس لتلمس الفرق الهائل "إنَّ الإضرابـاتِ والاعتصاماتِ والمُظـاهَراتِ وسائِرَ أساليبِ الديمقراطية هي مِنْ عادات الكُفَّار وطُرُقِ تَعامُلِهم مع حكوماتهم، وليسَتْ مِنَ الدِّين الإسلاميِّ في شيءٍ، وليس مِنْ أعمالِ أهلِ الإيمانِ المُطالَبةُ بالحقوق ـ ولو كانَتْ مشروعةً ـ بسلوكِ طريقِ تركِ العملِ ونَشْرِ الفوضى وتأييدِها، وإثارةِ الفِتَنِ، والطعنِ في أعراضِ غيرِ المُشارِكين فيها، وغيرِها ممَّا ترفضه النصوصُ الشرعيةُ ويَأْباهُ خُلُقُ المسلمِ تربيةً ومنهجًا وسلوكًا.وإنَّما يُتوصَّلُ إلى الحقوقِ المطلوبةِ بالطُّرُقِ المشروعة؛ وذلك بمُراجَعةِ المسؤولين ووُلَاةِ الأمر، فإِنْ تَحقَّقَتِ المَطالِبُ فذلك مِنْ فضلِ الله سبحانه، وإِنْ كانَتِ الأخرى وَجَبَ الصبرُ والاحتسابُ".
الغريب، أن هذا التفكير السلبي، لا يشكل خطرا فقط على الوعي الجمعي للشعوب التواقة للحرية، وإنما حتى منظومة الحكم القائمة، بدأت تتململ من هذا النوع من التوظيف المنحرف للنصوص الشرعية، الرافض بالمطلق للعمل السياسي والنقابي وللدستور والقوانين، الموسوم بسب المخالفين والتحريض عليهم، وتبديعهم ورميهم بالضلال والمروق والكفر.. وقد استشعرت خطر هذا المنهج على "المرجعبة الدينية الوطنية"، وعلى وحدة الشعب والدولة.
فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.. وعلى خبراء الخيال السياسي أن يتصوروا لقاء عابرا في أحد مساجد القبة بأعالي الجزائر العاصمة بين الشيخين علي بن حاج ومحمد علي فركوس، بأي لغة سيتحاوران فيه لبناء مستقبل الوطن.
إقرأ أيضا: السلفية في الجزائر.. كيف تحولت إلى مدخلية "فركوسية"؟ (1من2)
السلفية في الجزائر.. كيف تحولت إلى مدخلية "فركوسية"؟ (1من2)
المغرب.. جدل فكري وسياسي حول الحريات الفردية وحقوق المرأة
المرأة التونسية بين مطرقة السياسة وسندان الذكوريّة