أدارت طهران وواشنطن طيلة الأربعين سنة الماضية، علاقاتهما المنقطعة منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، على أساس معادلة "لا حرب ولا سلام"، مع استمرار التوترات بينهما، الصاعدة تارة والهابطة تارة أخرى خلال هذه العقود الطويلة، وسط حرص الجانبين على ضبط إيقاعاتها وفقا لمتطلبات المعادلة.
صراع طويل
ومرت العلاقات المتأزمة بين البلدين خلال العقود الأربعة بحالات مختلفة ومتباينة، رفعت أحيانا منسوب التوتر إلى حد الانفجار، ليعزز فرص نشوب حرب بعض الأوقات، وخصوصا خلال الثمانينيات من القرن الماضي، أثناء حرب ناقلات النفط عام 1986، فضلا عن حالات أخرى، فرضت براغماتية عالية على "العدوين"، لتفتح الدبلوماسية والتفاوض ثقوبا في جدار العداء السميك، وهو ما تجسد في الاتفاق النووي، الذي فشلت أوروبا في تحقيقه مع إيران، خلال عشر سنوات من المفاوضات، لكنه أصبح تحصيل حاصل في تموز (يوليو) 2015، بعد سنتين من مفاوضات مباشرة بين طهران وواشنطن فحسب.
إلا أن الثغرة التي أحدثها هذا الاتفاق في جدار التوتر والعداء بين البلدين، لم تتسع رقعتها لاحقا، وهي نفسها أغلقت بالشمع الأحمر بفعل انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منه، لأنه بالأساس لم يلامس جذور الصراع بين الطرفين، وإنما طاول أحد مظاهره الفرعية، المتمثل في الملف النووي، الذي طرأ كإشكالية حديثة على الصراع مع بداية الألفية الثالثة، بالتالي ليس له صلة بالأسباب الأولية التي أوجدته، وإنما من عوامل تشديده.
نهاية مرحلة "لا حرب ولا سلام"
جاء الاتفاق النووي، في سياق المعادلة نفسها أي "لا حرب ولا سلام"، ليقدم الجانبان تنازلات في سبيل التوصل إليه، لكن شكّل انسحاب الإدارة الراهنة من الاتفاق في الثامن من أيار/مايو 2018، بداية النهاية لهذه المعادلة القائمة منذ أربعين عاما، لتنطلق منه واشنطن نحو فرض معادلة "إما الحرب أو السلام بالشروط الأمريكية"، المرفوضة تماما من جانب إيران، المصرة على معادلة "لا حرب ولا تفاوض".
الإدارة الأمريكية وصلت إلى قناعة بأن نتائج معادلة "لا حرب ولا سلام" أصبحت لصالح إيران تماما
ثمة أسباب دفعت الجانب الأمريكي إلى الانتقال إلى المعادلة الجديدة، لعل أهمها هو وصول الإدارة الأمريكية إلى قناعة بأن نتائج معادلة "لا حرب ولا سلام" أصبحت لصالح إيران تماما، لتنتهي إلى تحقيق الأخيرة نفوذا كبيرا في المنطقة على حساب نفوذ واشنطن وحلفاءها من جهة، وبناء قوة عسكرية صلبة ورادعة من جهة أخرى. بالتالي رأت واشنطن أنها أصبحت بعد أربعين عاما أمام تهديد استراتيجي لمستقبل نفوذها في المنطقة، كما لوجود حلفائها وعلى رأسهم الحليف الإسرائيلي. من ثم، أنها وجدت أن الحربين اللتين شنتهما على أفغانستان والعراق، وأطاحتا بعدوين لإيران، لم تعودا بأية فائدة للولايات المتحدة الأمريكية، وإنما طهران هي التي ربحتهما، وأن تأثيرها في الساحتين يزيد أضعافا عن التأثير الأمريكي.
إيران وصفقة القرن
أما السبب العاجل فيرتبط بصفقة القرن الأمريكية، التي على عكس جميع مشاريع التسوية الأمريكية السابقة، لا تنطلق من حل الصراع على الأراضي المحتلة، وإنما من إيجاد فضاء إقليمي يفرض حلا أحاديا على الفلسطينيين من جهة، ويضمن مستقبل الصفقة من جهة أخرى. وفي هذا السياق، ترى الإدارة الأمريكية أنه لا يمكن لهذا الفضاء أن يتشكل أو لمستقبل الصفقة أن يكون مضمونا، إلا بعد إنهاء المخاطر والتهديدات التي تعترض هذا الطريق، تمثلها قوى وحركات، في مقدمتها إيران. بالتالي فإن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إيران تأتي في سياق التحضير إقليميا لإنجاح صفقة القرن، التي يمثل نجاحها في الوقت نفسه، ضربة استراتيجية لإيران والمحور الذي تمثله، وكذلك بدرجات أخرى لتركيا.
وفي هذا الإطار، ينبغي القول إننا أمام صفقة على الأغلب لا يتم إزاحة الستار عنها رسميا خلال الولاية الأولى لترامب، بالرغم من الوعود المكررة بأن الإعلان عنها بات قريبا، إلا بعد أن تنفذ بالكامل على الأرض، وذلك خلافا لجميع المشاريع السابقة، التي كانت تطرح كخطط مدونة في بادئ الأمر، وتعرض تفاصيلها للتفاوض.
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إيران تأتي في سياق التحضير إقليميا لإنجاح صفقة القرن،
ماذا تريد واشنطن؟
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى "الاتفاقية الشاملة" التي ينشدها الرئيس الأمريكي كبديل للاتفاق النووي مع إيران، وبالأحرى لفرضها عليها. هذه الاتفاقية التي تريدها واشنطن، وكما جاءت ملامحها في الشروط الـ 12 التي لطالما طرحتها الإدارة الأمريكية طيلة السنة الأخيرة، هي بصريح العبارة، تستهدف فرض خطة سلام على إيران بمعايير أمريكية خالصة محكومة بمتطلبات الأمن القومي الإسرائيلي.
وفي إطار فرض الخطة، أطلقت واشنطن إستراتيجية "الضغوط القصوى" تجاه طهران منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، لتمارس عليها ضغوطا اقتصادية "غير مسبوقة"، بغية جرّها إلى مفاوضات، مخرجاتها تحقق جميع تلك الشروط الـ 12 التي ترتبط ببرنامج إيران الصاروخي، ودورها الإقليمي، وبرنامجها النووي، وقضايا أخرى.
بالتالي فإن طاولة التفاوض، التي يدعو ترامب إيران إلى الجلوس عليها، ليست للنقاش وتبادل الآراء، وإجراء مفاوضات حقيقية، بغية التوصل إلى حلول وسط مرضية، وإنما هي طاولة يراد أن يرفع من خلالها الإيرانيون رآية الاستسلام والرضوخ، الأمر الذي دفع الجانب الإيراني إلى رفض صارم لجميع دعوات التفاوض "الملغومة" التي يطلقها ترامب، معتبرا التفاوض مع الإدارة الأمريكية في ظل المعطيات الراهنة، بأنه "استسلام كامل" أو "مذلة وهوان"، كما وصفه بذلك قائد فيلق القدس، اللواء قاسم سليماني، وغيره من المسؤولين الإيرانيين.
موقف إيراني رافض
هذا الرفض الإيراني "القاطع" مدفوع بقراءة مستفيضة لسلوكيات الرئيس الأمريكي منذ توليه السلطة في البيت الأبيض على مدار السنتين الماضيتين، التي تؤكد أن ترامب لا يؤمن إلا بالحلول الأحادية، أظهرته جليا، سياساته طيلة هذه المدة تجاه الصراع على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي الوقت نفسه مع أوروبا والصين وكوريا الشمالية وغيرها.
من ثم، فبعد أن فشلت استراتيجية "الضغوط القصوى" بطابعها الاقتصادي المتمثل في شن "الحرب الاقتصادية" بلا هوادة، في إحداث فوضى في إيران خلال العام الذي مضى على الانسحاب من الاتفاق النووي، لتجبر طهران على القبول بالشروط الأمريكية أو بالأحرى بخطة السلام الأمريكية، اتجهت الإدارة الأمريكية بالتزامن مع الذكرى السنوية له نحو إضافة طابع عسكري لهذه الاستراتيجية، من خلال تصنيف الحرس الثوري الإيراني "منظمة إرهابية"، ونشر حاملة طائرات "يو إس إس أبراهام لينكولن" ووحدة من قاذفات B52 في المنطقة، وسط الحديث عن إرسال المزيد من القوات الأمريكية إليها، لفرض أجواء حربية ضاغطة في سياق معادلة "إما الحرب أو السلام"، على أمل أن تحقق المطلوب الذي عجزت الضغوط الاقتصادية.
السلام بالمعايير الأمريكية
لكن هذه المعادلة لا تعني أن الإدارة الأمريكية ذاهبة باتجاه حرب شاملة مع إيران، أقله خلال الفترة القريبة المقبلة، وإنما تسعى عبر توظيف شبح الحرب وتصوير الوضع كأن الحرب الشاملة آتية إلى دفع الأوضاع إلى الجزء الثاني من المعادلة أي السلام على قاعدة تلك المعايير الأمريكية آنفة الذكر. وفي هذا السياق، لا تستبعد أن تحدث خلال الفترة المقبلة مناوشات عسكرية أو مواجهة محدودة، لكن وقوع مواجهة شاملة غير وارد في الوقت الراهن، لأن مقوماتها ليست متوفرة بعد، فناهيك بمخاطرها الجمة، على إسرائيل أولا، قبل أي حليف آخر، لا يمكن لواشطن أن تدخل مثل هذه المواجهة ببضعة آلاف جنود في المنطقة.
من ثم، كما تهدد طهران، ففي حال وقوع مثل هذه المواجهة لن تتوقف شرارتها عند الحدود الإيرانية، وإنما كل المنطقة بما فيها إمدادات النفط، ستتحول إلى ساحة مفتوحة للحرب، الأمر الذي يعني أن تلك الإمدادات ستتوقف بالكامل، بالنظر إلى القدرة التي تمتلكها طهران لتعطيلها لمدة طويلة خلال أي مواجهة شاملة قد تحدث. وهو أمر سيكون له تداعيات عالمية كبرى، ويرتد سلبا على فرص فوز ترامب نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين ثاني (نوفمبر) 2020. بالتالي ولو افترضنا أن هناك نية أمريكية سرية للذهاب باتجاه الحرب مع إيران، يستبعد أن تحدث ذلك خلال المدة المتبقية من ولاية ترامب الأولى.
في حال وقوع مثل هذه المواجهة لن تتوقف شرارتها عند الحدود الإيرانية، وإنما كل المنطقة بما فيها إمدادات النفط، ستتحول إلى ساحة مفتوحة للحرب
لماذا لا تُريد واشنطن إعلان الحرب ضد طهران؟