ربما أضحت قناعة راسخة لدى المتابع قبل المُطلع أو الخبير، بأن واشنطن لا تنوي، فعلاً، الإقدام على حربٍ شاملةٍ مع طهران، بل ترغب فقط في تضخيم حجم الآثار الاقتصادية السلبية عليها، وردعها عسكرياً من خلال نشر مُعدات عسكرية ضخمة بالقرب من مياهها الإقليمية.
وفي سياق ذلك، يتساءل كثيرون عن الأسباب الحقيقية التي تدفع واشنطن لتجنب الحرب مع دولة إقليمية لا توازيها في القوة والقدرات. بعيداً عن مقولة الخيال القائمة على قاعدة: "واشنطن وطهران تعملان من تحت الطاولة للسيطرة على المنطقة"، هناك عدة عوامل واقعية يمكن أن تُفسر سبب اكتفاء واشنطن بإبراز العصا لطهران، بدون استهدافها.
عندما تولى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مقاليد الحكم، رأى، على الأرجح، عدم نجاعة تكاليف الانتشار العسكري على الصعيد العالمي، محاولاً تحقيق انعزال نسبي ظهر في قرار الانسحاب من سوريا، وتخفيف الوجود المباشر في أفغانستان، والدخول في مفاوضات مع طالبان، وغيره، لكن بالنظر إلى الملف
الإيراني لاحظ أن الإبقاء عليه يضر بمصلحة بلاده وحلفائه، حيث أن تكلفة تغيير بنية الاتفاق ستصب في صالحه إيجاباً، وستكسبه فرصة بديلة أقل كلفةً وأكثر مكسباً من الإبقاء على الاتفاق بصورته الحالية.
لا يتعرض الاتفاق للانتشار المليشياوي الإيراني في المنطقة، ولا يحظر تطوير ترسانة إيران العسكرية (النووية والكيميائية) خارج حدودها القومية؛ حيث ينص على السماح للمفتشين الدوليين بدخول البلاد، ما يعني إمكان تطوير ترسانتها خارج حدودها، ويرفع القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية تدريجياً بعد عام 2025، ويمنح إيران حق التخصيب النووي بمُعدل 5 في المئة، وغيرها من المواد التي قيّمها ترامب وإدارته على أنها ثغرات تكمن في الاتفاق الذي يسمح لإيران بالانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي على الساحة الدولية، بدون إيقاف فعلي وتام لبرنامجها النووي. وأمام هذه الثغرات، يُظهر ترامب طموحه في إعادة التفاوض حول الاتفاق مع إيران، لكن وفقاً لشروطه التي تُفقد طهران أي قوة فعلية، والتي تجعل منفعة بلاده من الاتفاق أفضل بكثير مقارنة مع إيران. ويكاد يُبيّن ترامب، بتصريحاته وتحركاته، محاولته إحراز فرصة بديلة لشكل الاتفاق بحيث يكون العائد أفضل من الحالي، لكن بتكلفة أقل لا تصل إلى مستوى الحرب باهظ الثمن، وغير مُجدي النتائج.
لا يؤمن ترامب وعدد من أعضاء إدارته بمنطق الضربات المُطلقة أو الحروب الشاملة، حيث أنها تؤدي إلى فراغ سلطة يُولد منظمات إرهابية تُكلف الحكومة الأمريكية تكاليف ماديةً وعسكريةً باهظةً في محاربتها. لذا، يستبدلون منطق الضرب المُطلق بسياسة "العصا الغليظة" التي تُشير إلى احتواء وتطويق الغريم جغرافياً واقتصادياً وعسكرياً، واستهداف قوته عند الحاجة الماسة، لإجباره على تحقيق المرجو دون تكاليف عسكرية وبشرية ومادية هائلة.
ولعل التماسك البنيوي المؤسسي لإيران؛ حيث أن هناك مشاريع واستراتيجية واتحادا بائنا في مسألة اتخاذ القرار الوطني، بالإضافة إلى التماسك العسكري والانتشار الإقليمي الأمني بالوكالة في أكثر من بلادٍ في المنطقة، إلى جانب مشاطئتها لمضيق هُرمز الذي تمر منه 40 في المئة من مجموع الطاقة العالمية.. كل هذه العوامل وغيرها تجعل إيران قادرة على تحقيق "توازن للتهديدات" أمام واشنطن وحلفائها، حيث استهدفت محيط هرمز وبعض المنشآت النفطية في العُمق السعودي، ما يجعل واشنطن وحلفاءها مضطرين للانجرار نحو ترجيح العقلانية، والنظر في آليات تضييق الخناق على طهران وعناصرها بالوكالة بعيداً عن الحرب.
وربما للدعم الروسي والصيني لطهران دور في تخفيف حدة توجه واشنطن نحو مواجهة شاملة. تدعم موسكو طهران لوجستياً ودبلوماسياً؛ عبر مجلس الأمن، انطلاقاً من موقع إيران الجغرافي الهام الذي يُشكّل لها عموداً عسكرياً وجيوسياسياً واقتصادياً وأمنياً هام؛ ظهر بصورةٍ جلّيةٍ في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
أما الصين، فتنطلق من مصالحٍ جيوسياسيةٍ وجيو- اقتصاديةٍ في الوقوف إلى جانب إيران؛ التي قصدت الصين من أجل الدعم خلال الأسبوع الماضي. أما المصالح الجيوسياسية، فتتعلق بالموقع الجغرافي لإيران، والذي لا يبعد كثيراً عن الصين التي تخشى، في حال اندلاع حرب ضد إيران، من ظهور فراغ سلطة قد يؤدي إلى انتشار الإرهاب والجرائم المُنظمة، وغيرها، مما قد يؤدي إلى انتشار حالة عدم الاستقرار السياسي في منطقة آسيا الوسطى المحاذية للصين. ومن ناحية جيو- اقتصادية، فالصين تسعى لإعادة إحياء طريق الحرير الذي يمر بمحاذاة إيران ومن خلال بعض الدول
الخليجية، كما أنها ترمي للاستفادة من الغاز الإيراني عبر مد خطوط تمر في دول آسيا الوسطى. وأمام هذه المصالح لم تجد الصين، بالرغم من
توتر علاقاتها الاقتصادية مع واشنطن، حرجاً في التعبير عن دعمها لإيران في محنتها الحالية.
وفي إطار العوامل التي تجعل واشنطن لا تُفكر بحربٍ شاملةٍ، يذكر معارضة دول الاتفاق الأوروبية للإجراءات التي تقوم بها واشنطن، ما يعني انعدام وجود المُساند التقليدي لواشنطن في حال قامت حرب فعلية. كما تجدر الإشارة إلى عدم موافقة الدول الجارة، لا سيّما تركيا وتركمانستان والعراق، على إجراءات واشنطن، حيث تربط بين هذه الدول وإيران؛ مصالح اقتصادية وأمنية متينة، تدفعها لمُساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات الأمريكية.
أخيراً، ينعدم المنافس الإقليمي الحقيقي والقوي لإيران، والذي يمكن أن يُساند واشنطن التي إن فكرت في شنّ حرب، فإنها تسعى للاعتماد على تحالفات تشاركية إقليمية، قد لا توفرها الدول المنافسة لإيران، كدول الخليج وإسرائيل، في الوقت الحالي.
في الختام، تجدر الإشارة إلى أن كفة ميزان القوى بين أي طرفين لا يُمكن أن تكون بالمطلق راجحةً لصالح طرف على حساب الطرف الآخر. فإيران بتماسكها البنيوي، وبقوتها العسكرية، وبترابط مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية والجغرافية المتينة مع الدول المجاورة وغير المجاورة، ومع عناصر ما دون الدولة منتشرة باسمها (بالوكالة) في أكثر من منطقة، استطاعت إبقاء كفة الميزان غير راجحة لصالح واشنطن بالمطلق، ما دفع واشنطن لتجنب الحرب ضدها.