ما زالت "آسيا" (عامٌ وثمانية أشهر) تعلق نظرها في صورة والدها وفي رأسها ألف سؤال حول اختفائه المفاجئ من حياتها، وإن كان جسدها الصغير يكتفي بوجود والدتها فقط إلا أنها تردد كل يوم اسمه في نبرة صوت تكاد تُبكي أمها في كل مرة، فالحياة الجديدة لهذه العائلة الصغيرة ملأى بالهموم والمحاكم منذ أن اعتقل الوالد وهو الصحفي مصطفى الخاروف (31 عاما) المواطن الفلسطيني المقدسي.
حكاية هذه العائلة بدأت في الحادي والعشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي حين داهمت قوة من شرطة الاحتلال الإسرائيلي منزلها في حي واد الجوز شرق القدس المحتلة، وانتهى الاقتحام باعتقال الخاروف وتهديد لفظي من أحد الضباط بترحيله عن مدينته.
السيدة تمام الخاروف زوجة الأسير لم تكترث لكلمات الضابط ليلة الاقتحام وظنت أنها مجرد تهديدات للّعب بمشاعر العائلة؛ لتفاجأ بعدها بمعلومة تفيد أن زوجها تم نقله إلى سجن "جدعون" في مدينة الرملة المحتلة والذي يتبع لما تسمى دائرة الهجرة في حكومة الاحتلال.
وتقول لـ "عربي21" إنها لم تتوقع أن يكون هدف الاعتقال هو الترحيل عن القدس، لتبدأ بعدها سلسلة إجراءات قانونية من أجل الدفاع عن حقه في البقاء في مدينته رغم قرارات الاحتلال الجائرة.
وتضيف: "تم عقد أربع جلسات محاكمة حتى الآن لزوجي وفي كل مرة تنتهي برفض الطلب المقدم من المحامي بالإفراج بكفالة، ثم بدأت أفكر مليا فيما قاله لي الضابط يوم اعتقاله بأن أحضّر له حقيبته كي يسافر دون عودة، وحينها طلبوا منا أيضا عقد إيجار لمنزلنا ولكن مصطفى رفض الإدلاء بأي تفاصيل أخرى تحت ظرف الاعتقال المهين؛ بينما كنت أواجه الضابط بإجاباتي حتى كادوا يعتقلونني كذلك".
اقرأ أيضا: الاحتلال يحاول ترحيل مصور "الأناضول" من القدس للأردن
أشهر طويلة مرت كالدهر على هذه العائلة، فمصطفى شأنه شأن أي فلسطيني يعيش في القدس المحتلة، ولكن الاحتلال وكما العادة تذرع بوجود "تهم أمنية سرية" لم يفصح عنها ولن يفعل لأن مخابرات الاحتلال تتبع هذا الأسلوب في تسويق إجراءاتها العنصرية بحق الفلسطينيين.
وتوضح زوجة الخاروف بأنه ولد عام 1988 لأب مقدسي وأم جزائرية؛ وبعد 12 عاما من العيش في الجزائر قدم والده طلبا لما يسمى "لم شمل الفلسطينيين" كي يحصل جميع أبنائه على أوراق تمكنهم من العيش في القدس، ولكن الكتاب استثنى مصطفى وشقيقته الكبرى بحجة أنهما فوق السن القانوني لهذا الإجراء، وطيلة هذه الأعوام لم يتعرض الخاروف لأي تنبيه أو تلميح بإمكانية ترحيله إلا ليلة اعتقاله المستمر إلى الآن.
ويعمل الخاروف مصورا لوكالة الأناضول التركية منذ عامين وممنوع من السفر منذ 19 عاما أي منذ عودته مع عائلته من الجزائر، كما أنه لا يدخل مدن الضفة المحتلة إلا نادراً بسبب الخشية من الاعتقال أو التنكيل تبعا لسياسات الاحتلال.
وتشير زوجته إلى أن إجراءات المحاكم الإسرائيلية بهذا الشأن بعيدة المدى وتفضي في النهاية إلى رفض أي استئناف مقدم من طرف العائلة لإبقائه في مدينته، بينما لا يوجد أي خيار آخر ولا تتخيل فكرة الرحيل عن القدس على الإطلاق.
11 ألف مبعد
وليس الصحفي الخاروف أول مقدسي في دائرة الترحيل؛ فمنذ عام 1967 وصل عدد الفلسطينيين الذين تم إجبارهم على الخروج من مدينتهم قسريا أكثر من 11 ألف شخص بشكل فردي تحت حجج مختلفة.
وفي هذا الإطار يوضح مدير مؤسسة المقدسي لتنمية المجتمع معاذ الزعتري في حديث لـ"عربي21" بأن أغلب عمليات الترحيل حصلت بحق عائلات نووية؛ أي أنه يتم إبعاد الأب ومن ثم ينطبق الأمر على زوجته وأبنائه، لافتا إلى أن المقدسيين هم الوحيدون في العالم الذين لا يملكون أي جنسية؛ لا فلسطينية ولا إسرائيلية ولا حتى أردنية، بل يملكون جميعا جواز سفر أردني يمكنهم من العبور فقط وليس الإقامة.
ويبين بأن الاحتلال لا يعتبر المقدسيين مواطنين في مدينتهم بل يعتبرهم مقيمين فيها غير دائمين أو مؤقتين منذ احتلال المدينة عام 1967؛ وبالتالي يعتبر أن من حقه تجريدهم من هذه الإقامة المؤقتة وفقا لقرار وزارة الداخلية الإسرائيلية.
اقرأ أيضا: الاحتلال يتوسع سياحيا في القدس على حساب منازل الفلسطينيين
وحتى الأسرى من أبناء المدينة لم يسلموا من هذه القرارات، حيث أصدر الاحتلال قبل أسابيع قرارا بسحب الإقامة من الأسيرين إسحاق عرفة ومنير الرجبي والمعتقليْن منذ عدة أعوام.
ويقول أمجد عرفة شقيق الأسير إسحاق لـ"عربي21" إن مصلحة سجون الاحتلال قامت بتسليم شقيقه كتابا قبل ما يقارب الأسبوعين يحتوي قرارا من وزير الداخلية الإسرائيلية بسحب إقامته مع منح 30 يوما للاستئناف على ذلك، وحين قامت العائلة بالاستئناف على القرار تم تأجيل موعد الرد ضمن حلقة طويلة من المماطلة المعتادة.
ويعتبر بأن القرار يأتي ضمن مخططات تفريغ المدينة من أهلها وتحت حجج أمنية وهمية، حيث أن شقيقه معتقل منذ عام 2011 ومحكوم بالسجن المؤبد و60 عاما ولا يمكن أن يشكل خطرا على أمن الاحتلال وهو قابع رهن الاعتقال تحت هذا الحكم، ولكن ما يتم اتباعه ضد الأفراد بأثر رجعي حتى يطال القرار أكبر عدد ممكن من المقدسيين.
ويضيف: "حسب رؤيتي فإن الاحتلال يريد طرد كل الفلسطينيين من القدس من أجل إحلال المستوطنين مكانهم، وهي طريقتهم المتبعة منذ عقود ولكن في كل مرة تكون بشكل مختلف، والآن تطال هذه القرارات الأسرى وربما خلال سنوات تطال عائلاتهم أو أصدقاءهم".
ويبلغ عدد الفلسطينيين في القدس المحتلة نحو 435 ألفا بحسب إحصائية صادرة عن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني عام 2018، فيما بلغ عدد المستوطنين فيها وفقا لإحصائيات إسرائيلية لعام 2017 أكثر من 542 ألفاً، ويتبع الاحتلال سياسة سحب الإقامات بحق العديد من أهلها تحت حجج مختلفة، ومنهم أهالي بعض الشهداء ونواب حركة حماس الذين ترشحوا تحت قائمتها في الانتخابات التشريعية عام 2016.
تحذيرات من تصاعد اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى
المسجد الإبراهيمي بالخليل.. أذان يمنع وحواجز تخنق المصلين!
هل تتمكن السلطة "عمليا" من تحديد علاقتها بالاحتلال؟