قضايا وآراء

رمضان.. بين قيم الروح وقيم السوق

1300x600
في البدء كان الصوم محاولةً لتذكير الإنسان بكونه كائنا فيسيو-روحيا، عبر الانتقال بالجسد إلى خدمة الروح، ذلك أن الصوم عن المتناول في اليد واللذات القريبة ما هو إلا محاولة لإدراك اللامتناهي واللذات البعيدة والأكثر نشوة.

وقد اختلفت تأويلات أهل المعنى وهم يبحثون عن مقصد أو رمزية كل شعيرة من الشعائر، إيمانا منهم بأن "التدين بلا معنى وثنية" بتعبير عبد الرزاق الجبران، وإدراكا منهم لثُنائية الرمز "التطبيق الديني الخارجي" والمرموز "الايمان الديني".

وهكذا، كان الشيخ الأكبر ابن عربي يرى الصوم أكثر عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، ونظر إليه باعتباره صفة صمدانية من جهة التنزه عن الأكل والشرب والجماع، فيما حقيقة المخلوق كل ذلك، حتى أنه رأى أن الذين قالوا "إن الله هو المسيح بن مريم"؛ ما قالوا ذلك إلا لأنهم رأوا أنه "يصوم الدهر ولا يفطر" فظنوه كذلك، فلما أراد العبد أن يتصف مما ليس من حقيقته أن يتصف به، طاعةً لله، قال الله له "الصوم لي لا لك"، أي أنا هو الذي لا ينبغي لي أن أطعم وأشرب، وإذا كان بهذه المثابة، وكان سبب دخولك فيه كوني شرعته لك فأنا أجزي به، كأنه يقول وأنا جزاؤه.

هذا فيما رأى صادق الرافعي أن الصوم "فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح؛ أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة".

ومعلوم أن الصوم ليس بدعة الديانات التوحيدية المعروفة، بل إنه شعيرة عرفتها الأمم الوثنية سابقا، بيد أنه وكما تمّت يَهْوَدة ومَسحنة وأسلمة الصوم، فإنه قد تمّت رأسملة الصوم لاحقا، مثلما تمت رأسملة الحج، فأصبحتا شعيرتي الخواص من الأغنياء، يستعرضون في الحج سياحتهم ويستعرضون في الصوم تُخمتهم، ومعلوم أن السوق يعُضّ بنواجده على الدّين لما يوفره من أرباح خيالية.

هكذا إذن أضحى رمضان المسلمين بعد رأسملته مجرد كريسماس آخر وقد نطق بالشهادتين. فبعد أن كان شهر القطيعة مع الاستهلاك المفرط كي لا يصبح الإنسان عبدا للأشياء، كما حذر هنري ثورو المتأثر بالفلسفة الهندية، حين ألمح إلى أن الغنى الحقيقي للإنسان يقاس بكمية الأشياء التي يمكنه أن يستغني عنها، أو كما عبّر عن ذلك محمود درويش بعبارته الجميلة "لي حكمة المحكوم بالإعدام، لا أشياء أملكها كي تملكني"، إلا أنه صار الآن موسما تستعير فيه نار الاستهلاك التي لا رماد لها، ولا ينازعه في ذلك شهر. وهكذا أيضا لم يعد الصائم يشعر بامتزاج الأضداد فيه، أي بمحدودية قوّته وهول ضعفه وهو ممسك، ثم بالشحنة الضخمة التي يمنحها له الروحي على تجاوز هذا الضعف، وهو واثق من أنه في بعض المشقة لذة. شيء شبيه بما يُقال من أن فاقدي البصر لهم ذاكرة أقوى من المبصرين وتنمو لديهم أحاسيس أقوى!! إذ حين يفقد الجسد قدرة مادية تنتقل القدرة إلى حسّه وإحساسه وحدسه، وكذا هو حال الصوم إذن، إنه استثمار الجسدي في الروحي..

لكن الصائم الآن هو ذلك الغافل عن كل معنى، إنه الآن يمشي مزهوا في الأسواق وهو ممسك ينتظر آذان المغرب ليغنم بفرصة استهلاكية فريدة كان ينتظرها بفارغ المعنى. فبعدما كان رمضان فرصة للقطع مع الروتين صار فرصة لمزيد من البروتين، من الإنفاق، ومن الثرثرة، ومن الضحك، ومن السهر ومن الوعظ التجاري، الذي "يهذي" فيه الواعظ أكثر مما "يهدي".

نعم لقد أضحى رمضان ذروة الاستهلاك، وهو ما جعل جلال عامر رحمه الله يسأل ساخرا كعادته: "من المسؤول عن تحويل رمضان من ثلاثين يوم إلى ثلاثين حلقة؟!".

كان رمضان إذن فرصة للشعور بقيمة الحاجات والظواهر اليومية.. كان انتباها إلى لذّة "العادي" التي نسيناها بفعل الإفراط، أي لنعمة الماء، ولقرمشة الرغيف ولموسيقى قضم الفاكهة، وللغروب أيضا كلحظة منسية (لا سيما في المدن) والجديرة بالتأمل، وقبلها لصوت الأمعاء وتناهيد الأنفاس في سكون الجسد، كان استعادة لدور الحواس، للرائحة، وللذوق، وللبصر وهو حديد، وللبصيرة التي كانت متوارية خلف الحاجة وقد تم إشباعها بشكل مبالغ فيه..

كان رمضان فرصة لاختبار أحاسيس جديدة بالإمساك عن أشياء العالم كي يشتهينا العالم، ثم انتقل رمضان من كونه "شهر" عظيم إلى مجرد "شره" عظيم.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع