ما أن تنطلق فوهات البنادق الصهيونية على غزة حتى يبدأ النشاط الدبلوماسي المصري لوقف إطلاق النار، وكأن النظام المصري ينتظر باستمرار هذه اللحظة ليثبت وجوده كمؤتمن على القضية الفلسطينية. وكم من العرب حقيقة استخدموا الورقة الفلسطينية لنيل شهادات بالوطنية والالتزام القومي أمام شعوبهم، وأمام العرب المنافسين. وكم من مرة توصل المصريون إلى تهدئة بين الطرفين الصهيوني والفلسطيني، وبعددها لم يلتزم الصهاينة وسرعان ما كانوا ينكثون. وبعددها أيضا لم نكن نسمع حركة مصرية سياسية ودبلوماسية تلقي المسؤولية على الكيان الصهيوني؛ كطرف إرهابي محتل ويحاصر القطاع ليتضور المدنيون جوعا، وتطالب العالم بموقف واضح حيال الاعتداءات الصهيونية المستمرة على قطاع غزة.. لكن عقب كل جولة قتال كنا نسمع الأمريكيين يوجهون تهم الإرهاب للفلسطينيين وليس للاحتلال.
من الناحية الجدلية، لم يكن من المتوقع أن يعلن الجانب المصري عن موقف يدين الصهاينة جهارا نهارا، وإن سألهم أحد يقول إنه لا يتخذ هكذا خطوة لكي يبقى باب الاتصال بالصهاينة مفتوحا، ما يمكن مصر من كبح جماح الاعتداءات أو التخفيف من شدتها. على الرغم من أن في هذا بعض الصحة، لكن تبقى الحقيقة ماثلة؛ وهي أن النظام المصري (كما أغلب الأنظمة العربية) يقف ضد المقاومة العربية المسلحة ضد الصهاينة، وبعض الأنظمة، مثل السعودية والإمارات، تعتبر المقاومة إرهابا، فضلا عن أن قناعة أنظمة عربية عدة تعتبر مقاومة غزة إخوانية، أي منبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة محظورة في مصر، ومصنفة إرهابية من قبل عدد من الأنظمة العربية. المعنى، أن الدجل السياسي يطغى غالبا على تبريرات الاستمرار في مهادنة الصهاينة والتطبيع معهم. ومشكلة الأنظمة العربية، بما فيها النظام المصري، أنها غير مطمئنة لقدرة الصهاينة على حسم الحرب ضد المقاومة في غزة سريعا، وكلما طال أمد الحرب شعرت الأنظمة العربية بضيق متزايد من الناحيتين الإعلامية والشعبية.
ستتوصل مصر مع الجانبين في هذا التصعيد الأخير إلى تهدئة جديدة غير مكتوبة وغير موقعة قصيرة الأمد في انتظار العدوان الصهيوني التالي (وبالفعل قد توصلت لوقف إطلاق النار فجر يوم السادس من أيار، 2018). لكن الملاحظ هذه المرة أن التصعيد الصهيوني لم ترافقه زمجرات حامية، كما كان الأمر قبل شهر؛ عندما كان رئيس وزراء الصهاينة في أمريكا وأطلق تهديدا قاسيا ضد المقاومة الفلسطينية. ولم تكن في حينه الهجمات الصهيونية ضد القطاع بحجم التهديد، وذلك لأسباب كانت واضحة وتتلخص في العوامل التالية:
- كانت الانتخابات السياسية الصهيونية على الأبواب، وكان يخشى رئيس وزراء الصهاينة إطالة أمد التصعيد واستفزاز المقاومة الفلسطينية بالمزيد، فتتأثر مخرجات الانتخابات. كانت عين رئيس وزرائهم على كسب الانتخابات وتجنب كل ما من شأنه أن يكلفه بعض الأصوات، وكانت هذه التكلفة واردة فيما لو قامت المقاومة بإطلاق صواريخ مدمرة على المدن الصهيونية في الأرض المحتلة/48، أو على مصانع ومنشآت صهيونية حيوية.
- الجيش الصهيوني لم يكن جاهزا لحرب طويلة الأمد، خاصة أن المقاومة الفلسطينية أضحت أكثر قوة مما كانت عليه عام 2014، وتملك قدرات صاروخية أكثر تطورا. طال أمد الحرب عام 2014 إلى 52 يوما، فكيف سيكون أمدها الآن؟ فضلا عن أن مستوى الانضباط في الجيش الصهيوني قد انخفض، وكذلك المعنويات بسبب إخفاقات متتالية في غزة وفي جنوب لبنان.
- الناس في الكيان الصهيوني ليسوا في حالة تماسك ومعنويات عالية لاستيعاب تأثيرات الحرب.. الناس مهتمون بصوة أساسية بحيواتهم اليومية وبرفاههم الذاتي؛ أكثر مما عادوا يهتمون بشؤون الحياة العامة. هم يدركون الآن أن كيانهم الصهيوني لم يعد قادرا على تنفيذ عمليات حربية سريعة وحاسمة، وأن الجندي العربي لم يعد يولّي الأدبار مع دخول أول دبابة صهيونية الحدود.
هذه العوامل جميعها ما زالت موجودة، إلا عامل واحد، وهو أن الانتخابات قد انتهت وأن نتنياهو قد اطمأن إلى النتائج وإلى بقائه في الحكم. فهو لم يعد يبالي كثيرا بخسائر انتخابية، واهتمامه الآن ينصب على نشاطات قد تخفف عنه الضغط الداخلي المتعلق بتهم الفساد التي تلاحقه. وقد يرى هو الآن أن حربا ناجحة ضد قطاع غزة قد تصنع منه بطلا وتبرئه من التهم الموجهة ضده، أو تحشد الطاقات الشعبية خلفه لتخفيف الضغط القضائي عليه.
بما أن العوامل الأخرى ما زالت ثابتة، فإن القرار الصهيوني العسكري بالذات يبقى رهنا بهذه العوامل. فالعسكريون والأمنيون الصهاينة أصحاب علاقة قوية بقرار الحرب والتهدئة، وهم يعرفون قدرات الجيش أكثر مما يعرف نتنياهو، وهم في الغالب أكثر عقلانية وتقديرا لموازين القوى من السياسيين. ومن المتوقع أن يقبل العسكريون التصعيد الجوي الصهيوني ضد قطاع غزة، لكنهم لن يجنحوا نحو الحرب البرية بسبب عدم قدرة الجيش على اقتحام قطاع غزة بسرعة ونجاح. وإذا تمكنت المقاومة الفلسطينية من الرد بقوة على قتل المدنيين وتدمير البيوت، فإن السياسيين والعسكريين سيجدون أنفسهم أمام أمر واقع يقبلون معه المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في انتظار وجبة قادمة من القصف المتبادل. وهذا بالضبط ما حصل.
انتصار رمضان وغزة العزة.. أحداث كاشفة (5)
المقاومة في قبضة إيران! ماذا عن قبضة "إسرائيل"؟!