عندما كان أيوب محمد فتى صغيرا ضرب أفراد قوات الأمن والده فأصيب بالشلل. وكانت تهمته طبع منشورات باللغة الكردية التي كان حزب البعث الحاكم في سوريا في ذلك الوقت يحظر استخدامها.
وظل محمد وأسرته يطعمون الأب ويحممونه على مدى سنوات. وتجنب محمد تعلم القراءة بلغته خوفا من الآلة الكاتبة التي جرت والده إلى غرفة التحقيق.
وقال: "أنا ما شفت أبوي يمشي...كان لآخر لحظة قبل ما يموت يؤمن انه بده يقوم و يناضل".
وتوفي والد محمد في عام 2011 الذي بدأ فيه الصراع في سوريا. فلم يشهد حصول المقاتلين الأكراد على حكم ذاتي في شمال وشرق سوريا. ولم ير ابنه، الذي يبلغ من العمر 36 عاما الآن، يصبح مدرسا في مدرسة كردية في مدينة القامشلي على الحدود مع تركيا.
ويسيطر زعماء الأكراد حاليا على نحو ربع مساحة سوريا، وهي أكبر مساحة خارج سيطرة الدولة.
لكن قبضتهم ما زالت غير محكمة على السلطة في منطقة غنية بالنفط والأراضي الزراعية والمياه. فالرئيس بشار الأسد يريد استعادة السيطرة على كل شبر من الأرض السورية وتركيا تهدد بسحق الأكراد والدعم الأمريكي يتراجع.
وأثارت التغيرات التي أعادت تشكيل مساحات كبيرة من سوريا قلق الدول المجاورة التي تخشى أن تنتشر الحركات الانفصالية بين أكرادها. ويقيم ملايين الأكراد، وهم أقلية عرقية تركت بلا دولة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية قبل نحو مئة عام، في تركيا وإيران وسوريا والعراق.
وفي القامشلي، لم تكن مثل هذه التغيرات متصورة ذات يوم. فطالب الحقوق الذي تعرض للتعذيب لحمله كتابا كرديا أصبح يملك مكتبة. والمرأة التي كانت تجتمع سرا مع صديقاتها لتعلم الكردية أصبحت الآن وزيرة للتعليم بحكم الأمر الواقع في المنطقة.
والنشطاء الأكراد الذين كانوا يواجهون خطر الاعتقال كلما احتجوا لديهم الآن مطابع ومهرجانات وقنوات تلفزيونية.
ويظهر التغيير بوضوح في أروقة المدارس حيث نشأ جيل على مدى ثماني سنوات لا يتعلم الكردية فقط بل يتعلم أيضا أن يصدق أن الأكراد يستحقون الحقوق التي حرموا منها على مدى عقود ويتعين عليهم التمسك بها الآن.
وقالت سميرة حج علي الرئيسة المشتركة لهيئة التربية في مقاطعة الجزيرة (شمال شرق سوريا) "ما كنا نتوقع...صراحة هادا كان حلم إلنا، طبعا ما رح نرجع لقبل 2011... ما رح نرجع لورا".
وفي الأيام الأولى من الصراع السوري عندما حاولت سميرة حج علي وغيرها من النشطاء بدء فصول تعليم اللغة الكردية أغلقت الحكومة هذه الفصول.
وقالت سميرة: "نحن والعوائل والطلاب كسرنا الأبواب ودخلنا المدارس".
واليوم ترأس سميرة حج علي هيئة التربية والتعليم التي تدير آلاف المدارس والجامعات وتعلم الكبار الكردية. وأعدت منهجا دراسيا باللغات الكردية والعربية والسريانية ليتعلم التلاميذ لغتهم الأم.
وتعلم الهيئة الأطفال حتى الصف العاشر (16 عاما). لكن في المدارس السنوية، في المباني نفسها، ما زال المدرسون الحكوميون يتولون التعليم في الصفين الحادي عشر والثاني عشر.
وفي العام المقبل ستبدأ الهيئة في تعليم الصف الحادي عشر أيضا.
وقال عدد من المدرسين إن هذه الخطط تواجه معارضة ليس فقط من الحكومة بل أيضا من بعض المجتمعات العربية، والأحزاب الكردية المناهضة لحزب الاتحاد الديمقراطي وأولياء أمور الذين يخشون على مستقبل أبنائهم.
فالمدارس في شمال شرق سوريا، مثلها مثل إدارة الحكم الذاتي، غير معترف بها رسميا سواء في الدولة أو في العالم الخارجي.
وردا على أسئلة رويترز قالت وزارة التربية والتعليم السورية إنها تبلغ جميع المدارس مرارا وتكرارا بالالتزام بالمناهج الدراسية الحكومية لمصلحة التلاميذ ولحصولهم على الدرجات المقبولة في الخارج.
لكن البعض يشعر أنه ضحى بالكثير ولا يمكنه التراجع الآن. وقالت نجين كالي مديرة روضة أطفال إن زوجها، وهو أحد المقاتلين في وحدات حماية الشعب، مات حتى تتمكن من القيام بعملها هذا.
وأضافت "وقت راح عهالطريق والله صراحة قلت له كيف بدك تروح؟ إذا صار معك شيء؟ قالي أنا عم ساوي شي كرمال مستقبل ولادك...كرمال يتعلموا لغتهن...كرمال كل إنسان ما يكونوا حقوقه ضايعة".
ورغم العداء التاريخي لم يشتبك المقاتلون الأكراد مع دمشق إلا نادرا خلال الحرب السورية، وحاربوا نفس العدو في بعض الأوقات.
ومكنت هذه العلاقة الدولة من الاحتفاظ بأجزاء من القامشلي، منها مطار يسير طائرات إلى دمشق، والحسكة القريبة. وسمحت كذلك للزعماء الأكراد بكسب المال من النفط المباع لمناطق تسيطر عليها الحكومة.
ويسجل السكان المواليد والزيجات والوفيات في مراكز تابعة للدولة في القامشلي والحسكة في حين تصدر إدارة الحكم الذاتي رخص القيادة ووثائق أخرى.
وتقول الزعيمة الكردية البارزة فوزة يوسف إن مثل هذه العلاقات مكنت الناس من المضي قدما في حياتهم اليومية.
غير أن محاولات التفاوض على اتفاق سياسي مع دمشق لم تصل إلى شيء مما يثير مخاوف السلطات الكردية التي تريد الحفاظ على مكاسبها.
وربما يكون من شأن إبرام اتفاق على هذا النحو أن يحمي الأكراد من هجمات تركيا التي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية فرعا لحزب العمال الكردستاني التركي الذي يشن تمردا على أراضيها، وتصنفه أنقرة إرهابيا.
ومن مصادر التوتر الأخرى في شمال سوريا أن معارضين محليين يتهمون حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي باتخاذ كل القرارات المهمة وفرض فكره حتى في المجالس المحلية التي تضم عربا وأعضاء من عرقيات أخرى.
وفي المعهد الذي يضع المناهج الدراسية في بلدة عامودا تزين الجدران صور عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون. ويستند نظام الحكم الجديد في المنطقة الشمالية إلى أفكاره عن الاتحادية رغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي يقول إنه تربطه علاقات سياسية فقط بحزب العمال الكردستاني.
ويقول المدرسون إن المنهج الدراسي لا يروج لأي فكر بل يعرض أفكار أوجلان إلى جانب آخرين في حصص مثل "الثقافة والأعراق" أو دراسات النوع الاجتماعي.
وأثارت المسائل المتعلقة بكيفية الحكم وما الذي يتعين تعليمه للتلاميذ احتكاكات في المدن والبلدات التي تقطنها أغلبية عربية في الرقة ودير الزور التي دخلت في الآونة الأخيرة تحت سيطرة المنطقة الكردية.
ويبيع متجر عبد الله شيخو في القامشلي الكتب التي ترجمها هو وأصدقاؤه إلى الكردية. ويقول شيخو إن منطقة الشمال الشرقي التي يعاني اقتصادها من تدهور منذ فترة طويلة، ما زالت تعتمد على دمشق في بعض النواحي لأنها تفتقر للمعدات والخبرات.
وقال شيخو إن الناس في السابق كانت تحرق الكتب الكردية أو تدفنها في قراها بدافع الخوف. وأضاف "هذه المنطقة لا سمح الله إذا صار في شي هجوم من النظام أو أي فئة ثانية هذه الكتب سنضطر أن نحرقها أو نضعها تحت الأرض مرة ثانية".
هل بدأت روسيا بتحجيم دور "حزب الله" في ريف حمص؟
ما شرعية اتفاقيات الأسد مع روسيا وإيران.. هل يمكن إلغاؤها؟
"عربي21" تستعرض أهم استثمارات "الثوري الإيراني" بسوريا