كانوا يعرفون أنهم يغامرون، ومع ذلك خرجوا يهتفون بسقوط حكم العسكر.. وكان يعرف أنه حتماً سيُعتقل، ومع ذلك وقف في ميدان التحرير وحده يرفع لافتة بسقوط الحكم العسكري، فلا تزال الثورة قائمة، ولا يزال الكفاح دوار!
لم تكن هناك دعوة للتظاهر في ميدان التحرير، ومع ذلك خرج أحد الشباب متظاهراً لوحده، فلم يلبث في مكانه إلا قليلاً لتتحرك قوات الأمن وتلقي القبض عليه. ولعل شجاعته، فضلاً عن أنه نجل ضابط سابق لضابط بأمن الدولة، هو ما جعل كثيرين يشككون في أمره. ونحن نعيش في هذه الأيام حالة من التشكيك في كل شيء، وكل فريق يشك في ما عداه. وأحد الشيوعيين القدامى ارتجف وهو يعلن أن الإخوان قادمون، وهو يحذر تياره من الاندفاع في إسقاط الحكم القائم؛ لأن الإخوان يستثمرون أحكام الإعدام، ويستثمرون -كذلك- حادث محطة القطار، بهدف القفز على السلطة من جديد!
المؤامرة:
في المقابل، هناك من هم في شك من أي دعوة لإعلان الاحتجاج تأتي من خارجهم، ولهذا فإن هذا الشاب لا بد وأن يكون مدفوعاً بمؤامرة كونية ليقوم بما قام به. ولا نعرف ماذا تستهدف هذه المؤامرة، فضلاً عن أنهم قللوا من قيمة الدعوة التي أطلقها مذيع قناة "الشرق" معتز مطر، والتي كانت المفاجأة في هذه الاستجابة الواسعة لها، فلم يرضَ عن الدعوة وصاحبها فرق "المؤامرة الكونية" من الجانبين. فجماعة "احترس فالإخوان قادمون" نظروا للدعوة على أنها من الإخوان.. ألم يبثها مذيع إخواني، يعمل في قناة إخوانية؟!.. وفي المقابل، فإن هناك من أزعجه هذا النجاح؛ لأنها نجحت رغم أنها ليست دعوة موجهة من الإخوان!
هناك من هم في شك من أي دعوة لإعلان الاحتجاج تأتي من خارجهم، ولهذا فإن هذا الشاب لا بد وأن يكون مدفوعاً بمؤامرة كونية ليقوم بما قام به
قناة "الشرق" ليست قناة إخوانية، و"معتز مطر" من الذين خرجوا في 30 حزيران/ يونيو وارتكبوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب، وهو بالتالي ليس إخوانيا. لكن اليسار المصري مريض بعقدة الإسلاميين، فكل ما عداهم هم إما فلول وإما إخوان، وقد يفضلون الفلول على الإخوان. والحال كذلك، فالشرق قناة الإخوان، ومعتز بايع المرشد العام على المصحف والمسدس، وهي ذات نغمة السلطة الحاكمة، ولا بأس، فهؤلاء وأولئك ينتمون لزمن عبد الناصر الذي اعتقلت فيه زميلتنا "نبيلة الأسيوطي" ردحاً من الزمن بتهمة أنها من الإخوان المسلمين، وقضى أهلها وقتا طويلا لإثبات أنها ليست مسلمة أصلاً، فكل وثائقها الرسمية مدون في خانة الديانة فيها أنها مسيحية!
لا "الشرق" قناة إخوانية، ولا "مكملين"، والقناة الإخوانية الوحيدة هي "وطن". من يريد أن يعيش المؤامرة، فلن نخرجه من أجوائها، وعلينا أن نطالبهم بالاستمرار في هذا الطريق لنهايته!
وفي المقابل، فإن من ينحازون للجناح المقابل يعتنقون نظرية المؤامرة أيضا، فقالوا من قبل إن العقيد أحمد قنصوة الذي أعلن ترشحه ضد السيسي؛ جزء من مؤامرة يقودها السيسي بنفسه، فتم اعتقاله.. وأن أحمد شفيق على وفاق مع السيسي عندما أعلن ترشحه، فجرى اختطافه من الإمارات إلى القاهرة.. وأن سامي عنان وهشام جنينة مؤامرة كونية، فاستقبلهما السجن. ثم هم يعتبرون "فتى التحرير" مؤامرة، ولا نعرف ما المستهدف من ذلك! فالذي كان جزءاً من المؤامرة هو من جاء في فترة الزخم الثوري لإعلان أن ضباطا في الجيش على اتصال به وأنهم سيقومون بالانقلاب على السيسي، ثم اختفى الآن. وهم الذين نشروا أن بريطانيا قررت منح الإخوان اللجوء السياسي، وأن الأمم المتحدة قررت محاكمة الجناة عن مذبحة رابعة، ولم يكن شيء من هذا صحيحاً.
حدث في ثورة يناير:
جزء من ثبات فتى التحرير يرجع إلى نسق التربية، وفي ثورة يناير، كان هناك ملمحان رصدتهما وكتبت عنهما، الأول في يوم 25 كانون الثاني/ يناير، والثاني في يوم 28 كانون الثاني/ يناير.. الأول عندما كنا في ميدان التحرير، وعند أول حركة من رجال البوليس، ولو بتغيير دورياتهم أو مواقعهم، كانت تقابل من قبل المتظاهرين بالفزع والاستعداد للجري، ولما شعرت أن هذا من شأنه أن يمثل إغراء من قبل الداخلية بفض الاعتصام، فقد جعلت من مهمتي أن أهتف مع كل حالة فزع: "اثبت". وفي يوم جمعة الغضب تغيّر الموقف، فلم احتج إلى هذا، فقد كان هناك شباب مختلف يصرّ بعد فر على إعادة الكر، وكانت ملابسهم تشير إلى أي طبقة ينتمون!
تبدو الأمور في مصر مفاجأة للمتابع، فبدأ الناس يتخلون عن خوفهم على نحو يذكرنا بالأيام السابقة لثورة يناير، ومنذ نجاح الثورة التونسية
وهو ما فسرته وقتئذ بأنهم لم يناموا صغاراً على التهديد باستدعاء "العسكري" ومع التخويف برجل الشرطة. ولأن كثيرا منهم كانوا يشاركون في المظاهرات لأول مرة، فقد كانوا إلى حد ما أكثر صمودا.
لقد أُلقي القبض على الشاب، وعندما تقرر النيابة حبسه، لن يعتذر له أحد، فلم يعتذر أحد لكل من تمت إدانتهم بنظرية المؤامرة من قبل، ويدفعون الثمن الآن!
وبعيداً عن نظرية المؤامرة ومعتنقيها، والذين هم في حالة ميؤوس من علاجها، تبدو الأمور في مصر مفاجأة للمتابع، فبدأ الناس يتخلون عن خوفهم على نحو يذكرنا بالأيام السابقة لثورة يناير، ومنذ نجاح الثورة التونسية!
لقد ثبت أن الثورة، التي منيت بهزيمة نكراء مع بيان 3 تموز/ يوليو لا تزال حية في النفوس، وأنها يمكن أن تندلع بين عشية وضحاها، فلا شيء مضمون بالنسبة للسيسي، وإن أيده الغرب كله. وإن كونه أقدم على التعديلات الدستورية، فقد يكون هذا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأكثر الناس تفاؤلاً في السودان، لم يكن يتوقع اندلاع المظاهرات قبل اندلاعها بيوم واحد، فقد بدت الأمور قبضة البشير، وها هو يقرر وحزبه تعديل الدستور ليخوض الانتخابات القادمة، ولآخر يوم من عمره. فالشعب مستكين، والنخبة ضعيفة، لكن خرج الشعب فجأة، فجعل من التعديلات الدستورية ذكرى!
لقد ثبت أن الثورة، التي منيت بهزيمة نكراء مع بيان 3 تموز/ يوليو لا تزال حية في النفوس، وأنها يمكن أن تندلع بين عشية وضحاها، فلا شيء مضمون بالنسبة للسيسي، وإن أيده الغرب كله
نظرية الساقين والمعركة القادمة.. النقد الذاتي (54)