عادت مرة أخرى وزيرة
التعليم الجزائرية نورية بن غبريط لإثارة الجدل
بمنع الصلاة في المدارس، والدفاع عن فصل تلميذة في المدرسة الجزائرية الدولية في العاصمة الفرنسية باريس، تابعة للوزارة ويدرس فيها أبناء الجالية والسلك الدبلوماسي، وذلك بسبب أدائها
الصلاة داخل المؤسسة، كما أثنت الوزيرة على المديرة التي اتخذت القرار، بدلا من الدفع نحو حل تربوي، كوزيرة للتربية، وليس مقاربة قمعية تسلطية.
الوزيرة بررت قرارها بالقول إن "التلاميذ يذهبون إلى
المدارس من أجل التعليم وليس لشيء آخر، وهذه الممارسة (في إشارة للصلاة) مكانها المنزل وليس المدرسة".
من الناحية المنطقية يبدو كلامها "منطقيا"، ولكن الوزيرة تعرف أنها بتصريحاتها تسعى لإثارة جدل يبدو مقصودا ومستفزا، مثلما في السابق، بغرض البحث عن ردود أفعال غاضبة متوقعة في مثل هذه الأمور، وتحقيق ما تريده هي والسلطة، وهو الإلهاء وتحويل الأنظار عن النقاشات الحقيقة، وإثارة الشقاق والفتن الأيديولوجية بين الجزائريين، فيما تُعد السلطة العدة للانتخابات الرئاسية، وتريد فرض الرئيس المريض العاجز لولاية خامسة، وفيما تواجه الوزيرة نفسها احتجاجات من نقابات التعليم، وتساؤلات حول مستوى التعليم في البلاد، وبرنامجها الإصلاحي المزعوم، وحول مشاكل التعليم الحقيقية، كالاكتظاظ وغياب التدفئة في كثير من مدارس البلاد، خاصة في هذا الشتاء القاسي.
الوزيرة تعرف في الحقيقة أن ساعات الدوام المدرسي في الجزائر عموما لا تقع فيها تقريبا إلا صلاة واحدة، وهي "الظهر"، وحتى توقيتها يتصادف عموما مع فترة الراحة، حيث يترك التلاميذ والطاقم التعليمي المدرسة في أغلبهم!
هذا الاستفزاز الإلهائي المقصود ليس الأول للوزيرة، فهو فصل آخر مما يشبه عرضا تراجي-كوميديا، قد يكون أفضل عنوان له "مدرسة المغبرطين"، على وزن مسرحية "مدرسة المشاغبين" المصرية الشهيرة!
"مدرسة المغبرطين" هذه تظهر فيها الوزيرة بن غبريط ليس في دور المُدرِسة (أبلة..!)، وهي تُقدم درسا عن "المنطق"، إنما أقرب إلى مزيج من شخصية التلميذ "اللي ما يجمعش"، ولا يستطيع تكوين جملة مفيدة، الذي أداه الممثل الراحل يونس شلبي، وكذلك شخصية التلميذ (مرسِي الزناتي انهزم يا مينز!.. "دي إنكليزي دي يا مرسي.. لا دي "غبريطي"!).. وإن كانت بن غبريط تصرح هنا بأنه لا أحد يستطيع هزمها، وأن الرئيس بوتفليقة هو من عينها وهي تطبق برنامجه!
المفارقة أن الوزيرة التي ترفض "هذه الممارسة" (أي الصلاة كما وصفتها) في المدرسة، كانت دعت، كما نُقل عنها، إلى تشجيع استعمال "الواي واي"، وهي أحد أنواع الرقص الغريبة في المدارس، لأنها حسب زعمها تساعد في تهذيب التلاميذ والتقليل من العنف!
الوزيرة سبق أن أثارت جدلا مثلا بمحاولة تسويق استعمال "العامية" ضمن خطتها لإصلاح التعليم في الجزائر، مما دفع خصومها إلى اتهامها بـ"إسلاخ" المدرسة عن الهوية الجزائرية ضمن مخطط سري لـ"فرنسة" المدرسة الجزائرية بالاستعانة بخبراء فرنسيين. وذهبت الوزيرة وأنصارها إلى الزعم بأن مقاربتها علمية ومبنية على التوصيات العالمية لـ"اليونسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، التي مقرها باريس، غير أن المفارقة أن هذه التوصيات لا تجد لها صدى مثلا هناك، في عاصمة فرنسا، التي بها نحو 20 لغة دارجة، غير أن لغة التدريس تبقى الفرنسية الأكاديمية.
المثير للضحك والبكاء في آن واحد أن السيدة الوزيرة، التي لا تحسن التعبير بطلاقة بالعامية الجزائرية، فما بالك بالعربية الفصحي، تقول إن تعليم العربية بواسطة الدارجة يرفع مستوى تعليمها، وأن مستوى التلاميذ في منطقة أدرار بصحراء الجزائر ضعيف، رغم أنهم يدرسون القرآن قبل دخول المدرسة، مع أن المفارقة هنا قد تكون أن هؤلاء التلاميذ ربما مستواهم ونطقهم للعربية أفضل من مستوى الوزيرة نفسها، التي تقول إنها تريد تحسين مستوى اللغة العربية الضعيف في المدارس الجزائرية!
اللافت أن الوزيرة لم تتساءل أن ضعف المستوى في أدرار وفي الجنوب الجزائري بشكل عام يعود بشكل أساسي إلى غياب الإمكانات والكودار التعليمية في المنطقة، كما لم تتناول مشكل الحرارة القاتلة في مدارس المنطقة، وغياب توقيت مدرسي ملائم لطبيعة المنطقة.
الملاحظ أنه ثمة بالتأكيد خطاب "شيطنة" تتعرض له الوزيرة بن غبريط، من قبل ما يسمى بالتيار العروبي الإسلامي، ومنطلق مدان فيه أحيانا كثير من التدليس، خاصة حول عائلة السيدة بن غبريط، ولكن في المقابل هناك خطاب "تقديسي" بتخندق أيديولوجي من تيار "ديمخراطي"، فرانكوفيلي، عرب فوبي، يدعي أنه يمتلك الحقيقة يرى مثلا في سلطة الرئيس بوتفليقة الذي عيّن بن غبريط، "غير شرعية"، بل "جيفة"، لكن بن غبريط "حلال"، كما يقول المثل الشعبي الجزائري.
وهذا التيار، وهو عمليا لا يختلف عن "أصولية" التيار العروبي المعارض لبن غبريط، الذي يهاجمه، والذي يدعو إلى تدخل "فخامة الرئيس" لوقف "مؤامرة" بن غبريط، رغم أن "فخامته" هو الذي عَيّنَ الوزيرة.
هذا التراشق الأيديولوجي بين "المعسكرين" فيه جانب "إلهائي" يخدم السلطة القائمة، التي في "جيناتها" منذ السيطرة على الحكم بقوة السلاح في 1962، اللعب على "الحبال الإيديولوجية"، من منطلق لا يختلف عن سياسة "فرق تسد".. سلطة تلجأ دائما في فترات أزماتها السياسية والاقتصادية، مثلما هو الحال حاليا، إلى "تفريخ" بالونات الإلهاء.
إنه لمثير للمرارة فعلا أن يبقى موضوع اللغة والهوية الجزائر بعد نحو أكثر من نصف قرن من الاستقلال رهينة هذا التخندق الأيديولوجي، الإقصائي الخطير على وحدة البلاد ومستقبلها، وبعضه مصلحي انتهازي. والحقيقة تقال هنا، ليس فقط من التيار الفرانكفوني، العرب فوبي الإقصائي المتطرف، إنما كذلك من تيار عروبي، إقصائي هو بدوره، خاصة في ما يتعلق بالمكون الأول للهوية الجزائرية، أي الأمازيغية، التي صنع هذا التيار العروبي منها أزمة أو قنبلة موقوتة، بدلا من "تفكيكها" أو عدم السماح بظهورها أصلا بعد الاستقلال، بمقاربة أكثر واقعية وجامعة. هذا التيار العروبي قد لا نبالغ لو قلنا يتحمل بدوره دورا في ما آلت إليه المدرسة الجزائرية.. تيار بعض رموزه كانوا، كما يقول المثل الجزائري "يُجربون الحفافة (الحلاقة) في رؤوس اليتامى" من أبناء الشعب بسياسة تعريب متسرعة، بينما كان هؤلاء المسؤولون (وما زالوا) يُلحقون أبناءهم بالثانوية الفرنسية في الجزائر العاصمة، ويضمنون مستقبلهم بإرسالهم في بعثات للخارج على نقفة الدولة!