لا يمكن فهم قرار وقف المسار الانتخابي أو الديمقراطي في الجزائر بداية العام 1992، إلا باعتباره أول منتوج للثورات المضادة التي عاشتها الكثير من دول الربيع العربي فيما بعد، من طرف ما يسمى بالدولة العميقة، مدعومة بقوى أجنبية تدافع عن مصالحها في المنطقة، من جانب تشابه المنطلقات والنتائج، فقد أفضى نضال الجزائريين لانتزاع حرياتهم السياسية من منظومة الحكم الشمولي، إلى إرساء ديمقراطية جنينية، استبشر بها الجزائريون خيرا للخروج من ربقة التخلف والتبعية إلى رحاب التطور والريادة، غير أن فرحة الجزائريبن لم تدم طويلا، باعتبار التجربة الجزائرية كانت بمثابة جرس انذار حقيقي للقوى المعادية للديمقراطية في العالم العربي لكي تكشر عن أنيابها وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن القوى الكبرى ومعها القوى الرجعية المحلية لا تقبل أن ترى نجاح أي تجربة ديمقراطية في العالم العربي مخافة أن تتحول إلى حالة معدية قد تنسحب على عروش وملكيات، كل مشروعها هي العمالة للخارج.
تجليات الثورة المضادة
لقد برزت قوى الثورة المضادة في الجزائر الممثلة في قوى الدولة العميقة ذات الارتباطات الخارجية، بنفس التمظهرات التي ظهرت بها في معظم دول الربيع العربي فيما بعد، إلا أنها كانت أقرب منها للحالة المصرية منها إلى الحالة التونسية أو السورية أو اليمنية، ويمكن قياس ذلك في التمظهرات التالية:
أولا: بروز دور الجيش المحوري والأساسي في منع التحول الديمقراطي وقيامه بحماية النظام القديم تحت شعار حماية الجمهورية من التطرف والدولة الدينية، وهنا يظهر دور بعض كبار الجنرالات في حرف مسار ودور المؤسسة العسكرية من حماية الوطن من الأخطار الخارجية، إلى لاعب رئيس في توجيه السياسة الداخلية وإلغاء صوت الشعب في الاختيار الحر لحكامه. ورغم بعض الفوارق بين طريقة تدخل الجيش في الجزائر وتلك التي حدثت في مصر مثلا، إلا أن النتيجة كانت واحدة، وهي تولي المؤسسة العسكرية الحكم مباشرة بعد أن كانت تديره من وراء ستار، وهو ما يوضح أن النظم العسكاريتارية عموما لا يمكنها أن تتقبل انتقالا ديمقراطيا سلسا خاصة إذا كان البديل إسلاميا بكل ما يعني ذلك من خطر فقدان الامتيازات وما أكثرها داخليا وخارجيا.
إقرا أيضا: زيتوت: أوضاع الجزائر بعد الانقلاب على انتخابات 91 أسوأ
ثانيا: انقلاب ما يسمى زورا وبهتانا بالقوى الديمقراطية على الديمقراطية ذاتها التي يرفعونها في كل مكان كسجل تجاري على اختيارات الصندوق، وقد ثبت بالدليل القاطع أيضا أن القوى العلمانية وبعض تيارات ما يسمى بالمجتمع المدني وعلى رأسها الجمعيات النسوية، كانت في طليعة الداعمين لعملية وقف المسار الانتخابي، ودعوة الجيش للتدخل من أجل إنقاذ الديمقراطية من "الأشرار" الذين أفرزهم الصندوق الانتخابي بكل حرية وشفافية، ولقد كانت لما يسمى لجنة إنقاذ الجزائر مطلع التسعينيات بقيادة الاتحاد العام للعمال الجزائريين وبعض الاحزاب والجمعبات اللائكية (بدعم كبير من تيار الكابليست الذي اختطف أمازيغ الجزائر) الدور البارز في الضغط على المؤسسة العسكرية للتدخل والانقلاب على الديمقراطية التي تأتي بالمتدينين، وهو ذات الدور المشبوه تقريبا الذي لعبته نفس القوى تحت يافطة حركة "تمرد" في مصر (بدعم هائل من الأقباط)، علما أن هذه التيارات نفسها لعبت ذات الدور القذر في إجهاض ثورات سوريا وتونس واليمن وليبيا، وكانت معول هدم خطير في محاولة النهوض بالأمة وبناء نظم جديدة أكثر حرية وارتباطا بالجماهير.
فاتورة الدم الباهظة التي دفعها الشعب الجزائري جراء توقه للحرية والديمقراطية، وعملية التشويه الممنهجة للفائزين بالانتخابات، لا تقل فداحة عن فاتورة الدم التي دفعتها شعوب الربيع العربي
إقرأ أيضا: الجزائر 1988.. دماء حارقة وديمقراطيّة مفترضة (1من2)
رابعا: فاتورة الدم الباهظة التي دفعها الشعب الجزائري جراء توقه للحرية والديمقراطية، وعملية التشويه الممنهجة للفائزين بالانتخابات، لا تقل فداحة عن فاتورة الدم التي دفعتها شعوب الربيع العربي بعد حوالي عقدين من ذلك، عبر مؤسسات "صناعة الارهاب" وتحميل الإسلاميين المعتدلين الذين يؤمنون بالديمقراطية وحكم الشعب، تبعية المجازر المهولة التي ارتكبتها جماعات مخترقة وأخرى مفبركة في تحالفها العجيب مع قوى التكفير والإرهاب التي لا تؤمن بالصندوق وتعتبر الديمقراطية كفرا على غرار ما عرفته الجزائر من بشاعات (الجيا) أو الجماعة الإسلامية المسلحة، وتنظيم "داعش" المستحدث في بقية الدول العربية بعدها.
هذا الأسلوب رأيناه قد تم استنساخه بحذافيره في الجزائر كما في مصر وسوريا وليبيا وغيرها. وقد بدا واضحا أن الهدف من كل ذلك هو جعل الجماهير تكفر بدورها بفكرة التغيير، وبدلا من أن تكون المعادلة هي الخبز أو الديمقراطية، تكون المعادلة الأخطر هي الأمن أو الديمقراطية، وطبيعي أن تنحاز الشعوب المقهورة التي فقدت مئات الآلاف من أبنائها ظلما في النهاية إلى خيار الأمن على حساب الديمقراطية ولو إلى حين.
الذاتي والموضوعي
ورغم أن هذه كانت أبرز عوامل إجهاض الديمقراطية في الجزائر ومن بعدها في دول الربيع العربي، إلا أن عوامل موضوعية وأخرى ذاتية كان لها دورها هي أيضا في هذا الفشل والسقوط المؤلم، كان من أبرزها عدم نضوج الممارسة الديمقراطية لدى الفائزين في الانتخابات، علاوة على بعض الأخطاء الفادحة في لغة الخطاب وفي الممارسة، حيث بالغت جبهة الإنقاذ في الجزائر في الرفع من سقف المطالب بدولة إسلامية تحكمها الشريعة لا القانون كما كانت شعاراتها المرفوعة (لا ميثاق لا دستور قال الله قال الرسول)، والتهديد بالجهاد وحمل السلاح ومحاسبة المسؤولين عن الفساد بعد الوصول إلى السلطة، والمطالبة بتنحي الرئيس الشاذلي الذي ثبت أنه كان أكبر داعم لنتائج الصندوق وقد دفع ثمن ذلك عندما تم إجباره من الجنرالات على الاستقالة، بينما كانت من أكبر أخطاء الإخوان في مصر التساهل مع العسكر والوثوق بهم وأحيانا على حساب شباب الثورة اعتقادا منهم أن ذلك سينجيهم من الوقوع في المصير الجزائري، الذي تبين أنه مصير محتوم على كل حال، طالما أن العوامل سالفة الذكر اجتمعت كلها لإجهاض الديمقراطية الوليدة في بيئة طاردة ما زالت بحاجة إلى نضالات أكبر لترسيخها في السلوك اليومي للمواطن قبل أن نقنع بها مافيات الفساد والاستبداد.
لقد شكل توقيف المسار الانتخابي في الجزائر قبل 27 سنة درسا كبيرا للشعوب العربية التواقة للحرية والديمقراطية، لكنه للأسف درس لم يتم استيعاب مدلولاته بالشكل المطلوب، على رغم أنه يبقى صالحا للاستدلال به مستقبلا في كشف المؤامرات التي تحاك ضد الأمة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، في أن تبقى متخلفة من خلال منع الشعوب العربية كلها أن تصنع مصيرها بيدها، والسماح بالديمقراطية في كل أقطار العالم، بما فيها دول أفريقيا السوداء، ومنعها عن الدول العربية كلها وبلا استثناء، لأن استمرار بقاء إسرائيل وعدم استعادة الأمة لأمجادها يتطلب هذا الواقع تحديدا.
إقرأ أيضا: الجزائر.. الانقلاب على انتخابات 91 دليل عجز على تقاسم السلطة
زيتوت: أوضاع الجزائر بعد الانقلاب على انتخابات 91 أسوأ
الجزائر.. الانقلاب على انتخابات 91 دليل عجز على تقاسم السلطة
الجزائر 1988.. دماء حارقة وديمقراطيّة مفترضة (1من2)