عرفت الجزائر ربيعها الديمقراطي مبكرا عن ثورات الربيع العربي بأكثر من عقدين من الزمن، فقد حركت أزمة البترول للعام 1986، انتفاضة شعبية ضد الأوضاع المعيشية السيئة وضد الأحادية السياسية التي انتهجتها البلاد منذ استقلالها، عبر اعتمادها سياسة الحزب الواحد، الأمر الذي أفضى بأحداث الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) 1988، إلى إدراك منظومة الحكم ضرورة التغيير عبر إحداث آلية للتعددية السياسية والأخذ في الاعتبار الحساسيات السياسية المختلفة التي كانت بارزة بجلاء في المجتمع الجزائري وحتى داخل هياكل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم نفسه.
انفتاح غير مدروس
غير أن عملية الانفتاح التي لجأت إليها منظومة الحكم بقيادة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، لم تعمد الى انفتاح ديمقراطي مدروس قد يجنب البلاد هزات وارتدادات خطيرة غير محسوبة العواقب، فكان الانفتاح فوضويا، والحرية الممنوحة بأنواعها السياسية والإعلامية جاءت بجرعات زائدة عن حدها، وما لبثت أن ظهرت التيارات الإسلامية برأسها كقوة شعبية رهيبة لا يمكن للقوى الأخرى مواجهتها على أرض الواقع بسبب خطابها الشعبوي التعبوي.
وقد كان على رأس تلك القوى الجبهة الاسلامية للإنقاذ، بطابع "المغالبة" الذي تميزت به منذ البداية، والخطاب الراديكالي الذي كان صوته الأبرز نائب رئيس الجبهة الشيخ الشاب وقتها علي بلحاج، والذي استطاع أن يجمع حوله مئات الآلاف من الأنصار، خاصة داخل الأحياء الشعبية للمدن والقرى، كان خلالها حي باب الواد العاصمي مثالا حيا لتلك المعاقل الشعبية المنتشية بأهازيج الجبهة الإسلامية المطالبة في مجملها بتطبيق الشريعة الإسلامية والعودة بالبلاد إلى منابع الإسلام الأولى وسيرة السلف الصالح.
اقرأ أيضا: الجبهة الإسلامية للإنقاذ تقاطع انتخابات الجزائر
وقد أدركت أطراف كثيرة داخل نظام الرئيس الشاذلي وقتها وخارجه خطورة هذا الصعود غير الاعتيادي لحزب أصبح في وقت وجيز يقود ملايين الناس، وهي منتشية بزهو القوة والانتشار، وقد توج هذا الانتشار بالفوز الكبير للجبهة في الانتخابات المحلية عام 1990، والتي تحولت بفضلها الجبهة إلى دولة داخل الدولة، استثمرت بعض الصلاحيات الممنوحة للبلديات لكسب المزيد من التعاطف الشعبي عبر السيطرة على منابر المساجد، وإنشاء ما سمي بـ"الأسواق الشعبية" التي كانت تبيع السلع الحيوية الأكثر استهلاكا للمواطنين بأسعار زهيدة جدا لا تقدر الدولة بمؤسساتها على توفيرها، وهو ما دق جرس إنذار في أوساط القوى المعادية لهذا التيار، وجعلها متحفزة بشكل كبير للإطاحة بهذا "الغول" السياسي الذي لا يكاد يترك خلفه أخضر ولا يابس، قبل أن تأتي نتائج الانتخابات التشريعية في 26 كانون الأول (ديسمير) 1991، بثالثة الأثافي كما يقال، حين حصدت جبهة الإنقاذ الأغلبية الساحقة من المقاعد في الدور الأول من الانتخابات، بما يعني ذلك من تهديد صريح لمصالح قوى كثيرة متنفذة داخل السلطة وخارجها، والتي أدركت وقتها أنه لا مجال أمامها سوى التحرك لوقف نتائج الصندوق الانتخابي، وفرملة قطار الديمقراطية الذي (وللمفارقة) لم يأت على هوى الديمقراطيين من العلمانيين والعسكر، لتدخل بذلك الجزائر التي سبقت غيرها من الدول العربية في الممارسة الديمقراطية والحريات السياسية، في معترك الفوضى والاحتراب الداخلي ومواجهة دموية خلفت مآسي كبيرة لا تزال آثارها الى اليوم على الرغم من مرور كل هذا السنوات الطويلة.
انقلاب على الشرعية أم إنقاذ للجمهورية؟
رغم إعلان السلطات الجزائرية رسميا عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية مقاعد البرلمان في الدور الأول من أول انتخابات تشريعية تعددية يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) 1991، إلا أن الظهور الدراماتيكي لوزير الداخلية حينها الراحل العربي بلخير، الذي كان يعلن عن نتائج الانتخابات والعرق يتصبب من جبينه، أظهر بجلاء حجم الصدمة التي تلقتها دوائر السلطة وصنع القرار من خارج الرئاسة الجزائرية التي كان يمثلها الرئيس الشاذلي، والذي بخلاف باقي مراكز القوى في السلطة، كان قد وعد باحترام نتائج الصندوق مهما كان الفائز، وقد صرح بذلك مرات عديدة.
اقرأ أيضا: كيف أغرق الجنرالات الجزائر في الحرب بانقلابهم على بن جديد؟
هذا التململ الذي ظهر بجلاء لدى أوساط نافذة داخل الجيش والمخابرات والقوى والجمعيات اليسارية واللائكية، بين أنها كانت تتهيأ للانقلاب على الإرادة الشعبية بدعوى إنقاذ الجمهورية من خطر الإسلاميين المتشددين، فكان على رأس الجنرالات المتأهبين لفعل ذلك الجنرال خالد نزار الذي اعترف فيما بعد أنه وراء قرار توقيف المسار الانتخابي بتوافق مع جنرالات آخرين، كما كان في الجانب المدني قوى تدعي الديمقراطية لكنها وقفت ودعمت بقوة قرار توقيف المسار الديمقراطي، على غرار قيادة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بينما وقفت أحزاب وشخصيات وطنية ذات وزن كبير صراحة ضد هذا العبث، على غرار جبهة القوى الاشتراكية بقيادة الزعيم حسين آيت أحمد التي حلت ثانية في تلك الانتخابات، وحزب جبهة التحرير الوطني بقيادة المناظل عبد الحميد مهري، إضافة الى الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وغيرهم ممن حضروا فيما بعد لندوة سانت ايجيدو للمعارضة الرافضة لهذا الانقلاب بروما.
ومع ذلك، فإنه ورغم مرور كل هذه السنوات الطويلة، ما زال الجدل قائما عما إذا كان ما حصل انقلاب أم انقاذ للجمهورية، غيرأن مشكلة اصحاب الرأي الثاني على ما يبدو اليوم، أن الجمهورية التي تم انقاذها من جبهة الإنقاذ، والديمقراطية التي تم إنقاذها من الفائزين في الانتخابات، ما زالت غير مستقرة هل هي في نظام جمهوري أم ملكي، وأن الجملكية التي هي الآن تعيش بديمقراطية كسيحة، لا تكاد تقف على قدم إلا وسقطت على أرض التزوير، فهل كان الأمر إنقاذا أم تقويضا؟
أخطاء الجبهة وخطايا العسكر
على الرغم من الأخطاء الواضحة التي وقعت فيها قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ممارستها للديمقراطية، إلا أنها بالتأكيد لا تقارن بأخطاء أولئك الذين قرروا في لحظة مصادرة رأي الشعب وفق رؤيتهم الضيقة وحساباتهم الخاصة.
جزء غير بسيط من الجبهة لم يكن يؤمن أصلا بالقوانين الوضعية في مقابل الشريعة الإسلامية بما في ذلك الدستور نفسه.
اقرأ أيضا: هل يتخلى عسكر الجزائر عن بوتفليقة؟
الجيش يقصي جبهة الإنقاذ ويعود بالجزائر إلى المربع صفر (2من2)