جاء إعلان نتيجة
الانتخابات في جمهورية الكونغو
الديمقراطية (زائير سابقا) في العاشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، ليجدد المخاوف من عنف انتخابي محتمل، قد يفاقم الوضع الأمني الهش أصلا؛ في بلاد موبوءة بالصراعات المسلحة، ولها تاريخ طويل من العنف وعدم الاستقرار والفوضى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كان من المفترض إجراء هذه الانتخابات منذ العام 2016، ولكنها تعرقلت بسبب تدخلات الرئيس كابيلا، والذي أنهي دورتين رئاسيتين (2006 و2011)، ولكنه سعي لتعديل الدستور للحصول على دورة ثالثة، لذا ظل التأجيل تكتيكا مستمرا.
أسفرت نتيجة الانتخابات التي جرت في البلاد، في 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عن فوز مرشح المعارضة، عن "حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي"، فيليكس تشيسيكيدي (نجل المعارض البارز إتيني تشيسيكيدي الذي توفي في 2017)، بالرئاسة، حيث حصل على 38,5 في المئة من أصوات الناخبين، وبلغت نسبة المشاركة العامة 47,6 في المئة.
لم تعرف الكونغو الديمقراطية منذ استقلالها عن بلجيكا العام 1960، إلا النزاعات والاضطرابات والأزمات الإنسانية. وتشير بعض التقديرات إلى أن زهاء 5.4 مليون إنسان قد قضوا في حروب الكونغو المتواصلة منذ عقود.
رغم فتور حماس إدارة ترامب نحو
أفريقيا عموما، مع ذلك أعلنت الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي تعيين بيتر فام، مبعوثا خاصا لمنطقة البحيرات العظمى. فالأوضاع في الكونغو ستكون في طليعة أولوياته، وهو الذي كان مرشحا منذ فترة بين الأوساط الدبلوماسية في واشنطن لشغل منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، لخبرته العميقة في قضايا القارة، حيث رأس مركز أفريقيا في مركز الأبحاث المرموق "المجلس الأطلنطي" في واشنطن.
وقبيل أيام قليلة من إعلان نتائج الانتخابات (التي سبقتها ورافقتها خلافات وشكوك ومخالفات عديدة، وفي ظل المخاوف بوقوع أعمال عنف) أرسلت إدارة ترامب 50 جنديا إلى دولة توغو المجاورة، تمهيدا لإرسالهم إلى جمهورية الكونغو لحماية الأفراد والمصالح الأمريكية هناك، في حال تطلب الأمر ذلك.
كابيلا الابن، بعد أن مكث في السلطة لثمانية عشر عاما، لا يزال يحلم بالبقاء أو العودة للسلطة بأي ثمن، فهو ورثها عن أبيه لوران كابيلا عام2001، والذي كان قد أزاح الدكتاتور موبوتو سيكسيكو عن السلطة عام 1997.
خلال الفترة الأخيرة، يلاحظ بروز الدور الكبير للكنيسة الكاثوليكية في العملية الانتخابية، حيث نشرت نحو 40 ألف مراقب على الأرض، ومن هنا يأتي تحذيرها من أن النتيجة المعلنة قد تكون "مختلفة تماما" مع ما رصده مراقبوها على الأرض. ويتطابق موقف الكنيسة الكاثوليكية هذا مع فرنسا التي أعلنت فوز مارتن فويلو (تقول إنه حصل على 50 في المئة وفق إحصاءاتها، بينما أعطته النتائج الرسمية المعلنة، 34,8 في المئة)، وهو ما يثير مخاوف جدية من انزلاق البلاد في فوضى عارمة.
تبقي هذه المخاوف قائمة في ظل الحديث عن صفقة بين المرشح الفائز وكابيلا "لنقل السلطة"، على الرغم من أن مرشح السلطة في هذه الانتخابات كان إيمانويل رمضاني شاداري. وحيث أن للكونغو تاريخ طويل من الصفقات والمساومات بين السياسية لاقتسام السلطة وتبدل الولاءات وشراؤها، فإن غموض مواقف كابيلا من النتيجة المعلنة حتى الآن؛ يعزز فرضيات وجود اتفاق بين كابيلا والفائز المعلن رسميا من قبل اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات.
قبل كل ذلك، واجهت محاولات تنظيم الانتخابات الحالية عراقيل عدة منها: أولا، محاولات الرئيس المنتهية ولايته للبقاء في السلطة وتمديد فترة ولايته بتعديل الدستور، لكنه تعرّض لضغوط أثنته عن العدول عن هذا المخطط. ثانيا، انتشار وباء "إيبولا" في عدد من مناطق البلاد، حيث تم تعليق الاقتراع في بعض المناطق لهذا السبب. ثالثا، انعدام الأمن وانتشار الاضطرابات في مناطق واسعة من البلاد، خاصة شرق البلاد (محافظات كيفو شمال وجنوب) ومنطقة بيني (جنوب شرق البلاد). وتشير بعض التقديرات إلى وجود نحو 70 مجموعة مسلحة ناشطة في البلاد.
العام الحالي (2019) يمكن اعتباره عام اختبار للديمقراطية في أفريقيا، حيث من المقرر تنظيم استحقاقات انتخابية في كل من جنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا وتونس وليبيا والجزائر. فالنتائج التي تترتب على عقد هذه الانتخابات ستقرر مصير القارة؛ فهي إما أن تتعزز الانتخابات كآلية لتداول السلطة لوضع حد لتاريخ طويل من عدم الاستقرار السياسي في القارة، أو أن تتجدد أنظمة الاستبداد القائمة حاليا، وتكتسب رسوخا أشد، حيث ستهيمن ظاهرة تعديل الدساتير للسماح للرؤساء الحاليين للبقاء في السلطة لعدة دورات.
ومن هنا، يجب أن يكون ترسيخ مبدأ الانتخابات كوسيلة لتداول السلطة سلميا، بدل العنف والانقلابات، هو أهم درس يمكن استخلاصه من حالة الكونغو.
إن إجراء الانتخابات في الكونغو كان أيضا استفتاء على "التدخل الدولي" في هذا البلد؛ فالبعثة الدولية (بعثة الأمم المتحدة لاستقرار الكونغو "منوسكو") ليست معنية فقط بالأمن والاستقرار، وإنما إعادة بناء مؤسسات الدولية وتسهيل الانتقال السياسي، وهي دروس ينتظر تعميمها على حالات أخرى بالقارة.
نتيجة للصراعات المزمنة داخلها، وبجانب الاهتمام من المجتمع الدولي والقوى الكبرى، حازت الكونغو على اهتمام قطاع عريض من اللوبيات ومجموعات الضغط في الغرب، وعلى وجه الخصوص الجيل الجديد من اللوبيات الذي يركز على صراعات الموارد ومناهضة أنظمة "الكليبتوكراسي" (تعني حرفيا "حكم اللصوص"، كما يقصد بها الأنظمة التي تتكسب فيها الطبقات والنخب الحاكمة من خلال نهب الثروات والموارد الوطنية، وغيرها من أشكال الدخل القومي). وعلى هامش هذه اللوبيات، نشأ مجتمع مدني محلي أظهر أصواتا وأجندة تتجاوز الأحزاب والقوي التقليدية التي كانت جزءا من ماضي البلاد المظلم وفشله الكبير. على سبيل المثال، تحظى الكنيسة الكاثوليكية (التي لها تاريخ طويل من الانخراط في العمل العام) بنفوذ كبير، كما تحظى بثقة المجتمعات المحلية والدول الأطراف الخارجية.
وقد وثقّت "مجموعة أبحاث الكونغو"، في مركز التعاون الدولي بجامعة نيويورك، كل ما يتصل بهذه الانتخابات من حيث الملابسات والدلالات والرهانات المتصلة بها.
- علاوة على ذلك، إن نجاح الانتخابات في الكونغو له انعكاسات على الإقليم والقارة الأكبر؛ فهناك أزمة مماثلة لتداول السلطة في بورندي المجاورة، وظاهرة تمسك الرؤساء بالسلطة، والسعي لتعديل الدساتير لتمديد فترات الدورات الرئاسية المحددة دستوريا.
وإزاء هذه المسألة، تهيمن على النقاشات سردية تنطلق من أن الانتقال إلى الديمقراطية والتمسك بها هو دواء لأمراض القارة المزمنة، وأن الاستبداد أصل كل علل القارة.
ختاما، وبعد إعلان نتائج الانتخابات الكونغولية وتفاوت ردود الفعل إزاءها، ستظل السيناريوهات على النحو التالي:
السيناريو الأول، القبول بالفائز المعلن من قبل لجنة الانتخابات، وهو السيد فليكس تشيسيكيدي، والاعتراف الدولي والمحلي (ولو على مضض) بهذه النتيجة، واعتبارها "انتقالا ديمقراطيا أفريقيا"، ما دام أن الرئيس السابق (كابيلا) قد غادر السلطة عبر صناديق الاقتراع وليس عبر أي وسيلة أخرى.
السيناريو الثاني، رفض الاعتراف بفوز تشيسيكيدي، واللجوء للقضاء للطعن، واحتمالات إلغائها أو إعادتها بقرار من المحكمة الدستورية، و وسائل عنيفة مألوفة في البلاد، وهذه عملية تستغرق وقتا أطول. وضمن هذا السيناريو يتوقع أن يزداد الاستقطاب حدة بين الفرقاء والمتنافسين، واللجوء إلى الشارع، كما ستزداد مساحة "الفراغ" في البلاد، مما سيؤدي إلى: فوضى وانهيار أمنى، وموجات نزوح ولجوء ظلت مشاهد البلاد المألوفة.
السيناريو الثالث، وصول الأطراف إلى طريق مسدود وتباعد الشقة بينها، إزاء نتائج الانتخابات، عندها ليس من سبيل أمامهما سوى اللجوء إلى نوع من المقايضة، حيث من غير المحتمل حدوث هذا السيناريو بسهولة، لقوة اعتراض الكنيسة والمرشح فويلو ودول كفرنسا، وكذلك ضيق الموعد المضروب لتنصيب الرئيس الفائز في الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري.