أطلقت الحكومة السودانية في آب/أغسطس الحالي حملة لجمع الأسلحة من أيدي المواطنين بولاية دارفور وكردفان.
وقد تشكلت لهذا الغرض "اللجنة العليا لجمع السلاح والسيارات غير المرخصة"، حيث جال نائب رئيس حسبو محمد عبدالرحمن ولايات دارفور الخمس لتدشين هذه الحملة.
ودعا مجلس الأمن الدولي، في شباط/ فبراير الماضي، الحكومة السودانية إلى "التصدي لأعمال نقل الأسلحة الصغيرة وغير الشرعية إلى دارفور".
إن انتشار الأسلحة على المستوى الداخلي في دارفور، وفي أجزاء أخرى من البلاد، نجمت عنها أنماط من "التسيس والعسكرة"، حيث غدا العنف أداة أمضى سلاح من أجل الحصول على الحقوق وتلبية المطالب.. وحتى لاقتراف الأعمال الإجرامية.
في تتبعه للتغييرات والعوامل المختلفة حول القبيلة في دافور، مع ازدياد نطاق النزاعات المحلية واتساع نطاق انعدام الأمن، تناول الدكتور يوسف تكنة، الخبير في شئون دارفور في كتابه (الصراع القبلي في دارفور والهوية السودانية؛2017)، وظيفة (العقيد) لدى بعض القبائل هناك، وكيف أنها تطور تدريجيا لتأخذ طابعًا مؤسسيًا كتشكيلة عسكرية قبلية الوظيفة والدور والمهام، في تعبئة وتنظيم وتسليح وإصدار الأوامر لأفراد القبيلة في حالة النزاع والدفاع عن النفس.. إلخ.
وإزاء انتشار السلاح والعنف والاقتتال بين القبائل، على ما يبدو، باتت هناك إرادة سياسية لوضع حد لهذا الوضع "الشاذ"، والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر في ظل دولة حديثة ذات سيادة.
وفي أبريل عقدت ورشة السيطرة على الأسلحة الصغيرة والخفيفة في الاقليم. كما قام الرئيس في مايو الماضي بجولة في ولايات دارفور، وكان موضوع جمع الأسلحة أحد أجندة تلك الجولة، كما تشكلت لهذا الغرض لجنة عليا بقرار جمهوري في العام 2016.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن نزع الأسلحة عملية شديدة التعقيد، تواجَه الحكومة اليوم بتحدي أعمق هو: كيفية إنهاء ظاهرة "العسكرة" المتجذرة هناك، والتي طبعت المجتمعات المحلية هناك بطابع الصراع والعنف والحرب.
صحيحٌ القول بأن انتشار الأسلحة ليس مقصورا على دارفور، بل تعاني القارة الإفريقية من التداعيات السالبة لانتشار الأسلحة غير المقنّنة، وبحسب تقرير لمنظمة (أوكسفام) صدر في آذار/مارس الماضي، فإن "الفاعلين من غير الدول الذين يشاركون في معظم الصراعات في إفريقيا (أمراء الحرب- لوردات الحرب- المجموعات المتطرفة)، يستخدمون اسلحة غير خاضعة للرقابة وهؤلاء الفاعلون يلجؤون للحصول على الأسلحة من مخازن الدول أو تلك المنتجة محليا أو من السوق السوداء".
ويمضي التقرير السابق: "تتركز كميات الأسلحة الصغيرة والخفيفة والتي تقدر بـ 100 مليون قطعة غير مسيطر عليها في مناطق النزاعات وبيئات التحدي الأمني". بينما تذهب بعض التقديرات إلى أن الأسلحة المنتشرة بدافور قد تصل إلى مليوني قطعة سلاح.
ومع كل ذلك، تبدو هذه التقديرات غير دقيقة، لأن المنطقة شهدت تطورات كبيرة بعد نزاع العام 2003 بين الحكومة والمتمردين، من أهم مظاهرها تدفق الأسلحة بأعداد كبيرة جدا ومن مختلف الأنواع إلى أيدي المواطنين، فضلا عن النزاعات العابرة للحدود في الجوار، خاصة ليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى، مع وجود الحدود الهشة.
يمكن القول أن دوافع الحكومية من وراء هذه الحملة حاليا: السيطرة على أسلحة وجعل السلاح في يد الدولة بعد انتفت الحاجة لتسليح المجتمعات المحلية؛ واستكمال خطط سحق التمرد بعد تأسيس قوات الدعم السريع والتي نجحت في تحقيق هذه الهدف في فترة قصيرة جدا؛ وخلق بيئة مواتية لعودة النازحين واللاجئين، وأخيرا طي صفحة المعسكرات التي تعتبر من مظاهر المتبقية لنزاع دارفور منذ العام 2003.
كذلك تهدف الحكومة لوضع حد لتفاقم الاقتتال القبلي الذي يعتبر أكبر المهددات التي تواجها بعد دحر التمرد نسبيا، الذي يفاقم منه انتشار الأسلحة.
إن التدابير التي تقوم بها حاليا الحكومة السودانية لن تتحقق فاعليتها بدون إيجاد آلية إقليمية فعالة مسنودة من المجتمع الدولي، فانتشار السلاح في هذه المنطقة هو نتاج لنزاعات محلية إقليمية ودولية قديمة، تجددت وفق معطيات اليوم، وبالتالي لابد من إيجاد هذه الآلية ستتولى تنسيق الجهود ووضع التدابير الممكنة لضبط الحدود ومراقبتها، مكافحة الأنشطة غير المشروعة، تبادل المعلومات والتحرك الجماعي.
فهذا الوضع خلق نمطًا معيشيًا تغذيه الفوضى التي يتسبب بها انتشار السلاح، كما يُوجِد "ثغرات" عديدة تُعيد إنتاج دورة "العسكرة" من جديد، فوجود مجموعات مسلحة كبيرة العدد وحجم التسليح أدى إلى انتشار مظاهر "اقتصاد الحرب".
وفي الآونة الأخيرة تغيرت طبيعة النزاع بدافور بشكل دراماتيكي، حيث تنحو الأطراف المحلية إلى الانخراط في "اقتصاد التهريب"، بدلا من قتال مع القوات الحكومية، أو فيما بينها.
وفي حمأة الفوضى التي تضطرب بأطنابها في ليبيا المجاورة للإقليم ازدادت أنشطة التهريب العابرة للحدود مما قوّى "اقتصاد الحرب" في دارفور. ولذلك سيقاوم الفاعلون المنخرطون في "اقتصاد الحرب" الذى تجذَّر مجتمعيًا، أية محاولات للحد منه.
من هنا، تُقابل الحملة الحكومية الحالية لجمع الأسلحة بشكوك عميقة نتيجة فقدان الثقة بين الدولة من جهة، والمكونات المحلية من جهة أخرى. على أن ما يواجه حملة الحكومة الحالية الرامية لجمع الأسلحة غير المقننة من أيدى المواطنين حقيقة العوامل التالية:
أولاً، تغيُّر نظرة القبائل لمفهوم "السلاح"، حيث ترى جل القبائل أن سلاحها يعنى بقاءها على الوجود(!) في وجه العدو "الآخر" الذي يرتبص بها، وترسخت هذه التصورات نتيجة لغياب الدولة وتراجع وظائفها، لاسيما حفظ الأمن واحتكار العنف، لاسيما في هذه الرقعة من البلاد. وسبق لي أن أطلقتُ على هذه الوضعية نموذج "الدولة منقوصة السيادة".
ثانيًا: أن السلاح التي بأيدي المواطنين خلقت نوع من "توازن القوة" بين المكونات المحلية تجاه بعضها البعض؛ فالقبائل العربية ترى أن سلاحها يوفر لها الحماية في مواجهة استهداف الحركات المتمردة. وفي المقابل ترى الأخيرة أن أسلحة بعض التشكيلات النظامية وشبه النظامية-وحتى أسلحة الدولة- موجهة ضدها ولصالح أطراف محلية منافس لها. لذلك كل طرف يتمسك بسلاحه في وجه الآخر، وفي وجه الدولة التي لا يثق الجميع بها!.
ثالثًا: عجز الدولة عن بسط سيطرتها وتوفير "السلع العامة"-أهمها الأمن والخدمات- لكافة مواطنيها وبشكل متوازن وعادل، هو ما يجعل المكونات المحلية تنزع للتسلح لتوفير الأمن لنفسها وعدم الاعتماد على الدولة، وتساورها الشكوك تجاه الإجراءات الحكومية دوما.
رابعًا: منذ عقود، ترسخت لدى القبائل بدارفور تقاليد عسكرية تجذرت مع غياب دور الدولة وعجزها عن فرض الاستقرار وإقامة أسس حكم القانون وغياب مظاهر الدولة الأخرى، حيث حلت المكونات المجتمعية محل أجهزة الدولة الحديثة، مُشكلةً نموذج "المجتمع بدون دولة".
خامسًا: قامت حملة جمع الأسلحة أساسا على تدابير فوقية من دون "أصحاب المصلحة"، ويتجلى ذلك في عدم استصحاب أو شمول الإدارات الأهلية وكافة القبائل، وإشراك كافة المكونات المحلية، أو بالأحرى تحويل الأمر للمجتمعات المحلية والتي يتوقف عليها بشكل كبير نجاح أو فشل الحملة؛ مع الأخذ في الاعتبار أيضا أن هذه المكونات هي أكثر فعالية في مجتمعات دافور من أجهزة الدولة نفسها.
فالحملة الحكومية الحالية إذا لم تحقق هدفها النهائي والمعلن سوف تكون النتيجة: سباق تسلح غير مسبوق داخل المجتمعات المحلية هناك.