عندما حصلت
تونس على
استقلالها الصوري عن فرنسا، ارتكزت الدعاية الأيديولوجية "التحديثية"
للدولة على التقابل بين صورتين أساسيتين: صورة "الدرويش" أو المتدين
العامي الذي تحكمه الخرافات والتفكير اللاعقلاني، وصورة "المثقف
الحداثي" المتنور العقلاني الذي سيكون القاطرة الأساسية للخروج من التخلف
اللحاق بركب "الأمم المتقدمة". كانت صورة "المثقف" تجد
تجسيدها الأمثل ونموذجها الأعلى في "الزعيم" الحبيب بورقيبة: تكوين علمي
حديث، وإجادة للغة الفرنسية، وموقف "سلبي" أو معاد للأبنية الذهنية
والأنماط السلوكية التقليدية. وكان "التحديث" و"الاستثناء
التونسي" يجدان تعبيراتهما الأهم في "مجلة الأحوال الشخصية" دون أن
ينحصرا فيها. فالنخب الحاكمة في الدولة الناشئة كانت قد اكتسبت "شرعية الأداء"
(بعد شرعية النضال) بفضل إنجازاتها في الصحة والتعليم، ولكنه أداء كان يخفي جملة
من الوقائع الاجتماعية الشاهدة على اللاتكافؤ واللامساواة الفئوية والجهوية والأيديولوجية،
وهي تلك الأمراض السلطوية التي ستتكرس طيلة اللحظتين الدستورية والتجمعية من حكم
البلاد.
كان "الزعيم"
بورقيبة في الظاهر هو الوجه الأبرز في محاربة ثقافة "الدروشة" وما ينتمي
إلى سجلاتها الدوغمائية واللاعقلانية واللاوظيفية في "الدولة الوطنية"،
ولكنه في الواقع كان لحظة "علمنة" لتلك الثقافة لا لحظة الانعتاق منها.
لقد كانت عملية التحديث تتم بمفردات وببضائع "غربية"، ولكنها كانت تدار
بعقلية الثقافة التي أنتجت ثنائية "الشيخ والمريد"، وكان "الحزب
الحاكم" الذي يقود عملية التحديث يدار بعقلية "الزاوية" الصوفية،
حيث يسود التسليم والإيمان وينعدم الحس النقدي، ولم يكن "الزعيم" مجرد
رمز أو مرجعا تحكيميا لمعنى متفاوض في شأنه، بل كان هو "القطب الأعظم"
و"الملهم" الذي تتنزل عليه "الحقائق" ليصوغها هو ومن حوله في
تعليمات وأوامر لا تقبل التعقيب أو الرد.
لقد عرفت
"الدروشة" في شكلها "المعلمن" بداياتها عندما تحوّل الرجل
الذي كرّس ثالوث الزعيم- الحزب- الدولة إلى مرجع للديمقراطية و"الوطنية"
(رغم تنقيحه للدستور كي يحكم مدى الحياة، ورغم تكريسه للجهوية وللحكم الفردي،
وفتحه الباب أمام صراع مراكز القوى الذي انتهى بالانقلاب عليه)، ثم عرفت
"الدروشة" لحظة انتعاش كبيرة؛ عندما تحوّل الجنرال الدموي القادم إلى
الحكم بانقلاب إلى "صانع التغيير" و"حامي الحمى والدين"،
وتحولت الدولة البولسية القامعة للحريات والراعية للمافيات إلى نموذج للدولة "المدنية".
أمّا لحظة التجلي الأكمل لثقافة "الدروشة"، فقد كانت (وهذا من مكر
التاريخ) بعد الثورة.
بحكم الطبيعة الريعية
للدولة الانتزاعية (كما يسميها الأستاذ هشام البستاني)، وبحكم هيمنة السياسي على كافة
الحقول الاجتماعية والاقتصادية، كان من الطبيعي أن تجد "الدروشة
السلطوية" من يتبناها ويحاول تعميمها. فالناس على دين ملوكهم، وإن كان ملوكهم
"دروايش". كانت ثقافة "الدروشة" التي هي أساسا ثقافة التدليس
والاستعلاء الكاذب وإرهاب أعين الناس وعقولهم (وإن لزم الأمر أجسادهم) تمتد لتحكم
أغلب المنتجات "الرمزية" التي تنتمي "رسميا" لعالم الثقافة
والفكر والسياسة والمجتمع المدني بشقيه الحقوقي والنقابي. فانعدمت العلاقة (أو كادت)
بين الأسماء ومسمياتها، وأصبح أنجح الناس وأقدرهم على التدرج الاجتماعي واحتلال
المركز هم أقربهم إلى "الدروشة"، وأقدرهم على تمرير ذلك تحت مسميات أخرى،
كالسياسي والنقابي والمثقف والناشط المدني والإعلامي.. الخ.
قد يكون من المغري (اقتداء بالباحث الكندي ألان دينو Alain Deneault) أن نتحدث في زمن العولمة عن
هيمنة "نظام التفاهة"، ولكننا نميل إلى استعمال تعبير "نظام
الدروشة" الذي نراه ذا قدرة تفسيرية أعلى من نظيره الغربي. فالتفاهة التي
تحكم المجتمعات المتقدمة ذاتها، لا يمكن إلا أن تتحول إلى "دروشة" عندما
"تُتونس" أو تُعرّب، وذلك لسبب بسيط: استمرار ثقافة الشيخ والمريد
وهيمنة الاستعارة الرعوية وإن بشكل معلمن ظاهرا. بل قد يكون من الضروري أن نتحدث
عن "دروشة سائلة" تخترق الخطاب العلماني، كما تتحكم في خطاب الإسلام
السياسي على السواء، وهو تعبير نراه أنسب من استعمال المفهوم الذي ابتكره زيغموند
باومن (Zigmunt Bauman)،
أي مفهوم "
الحداثة السائلة"، لتوصيف الوضع في بلاد متخلفة وتابعة لا
تمتلك من الحداثة إلا الادعاء الذاتي الذي تُكذبه كل الأرقام والوقائع. هو ادعاء
لا يصمد كذلك أمام أي تحليل جدي للبنية العميقة للخطابات المتنازعة (يمينا ويسارا)
على إدارة الشأن العام.
إن "الإعلام"
الذي هو الوجه الأبرز أو القاطرة الأساسية لنظام "التفاهة".. هو عندنا
التعبير الأمثل لـ"نظام الدروشة". فالإعلامي التونسي (بما هو مقدم أو
ضيف أو "خبير") هو في الأغلب تجسيد حي للدرويش، ولكن بلبوس حداثي مزيف. لقد
حوّلت عملية التحديث القسري والمسقط والسطحية الزاوية الصوفية إلى "حزب"،
وعلمنت صورة "الشيخ الولي" ليصبح "زعيما". ولكنّ العلمنة
ووسائل الاتصال الحديثة حوّلا مركز الثقل في إنتاج ثقافة "الدروشة" من
الأحزاب إلى وسائل الإعلام، كما نقلا سلطة تشكيل الرأي العام من أصحاب الرساميل "الرمزية"
(الزعماء) إلى أصحاب الرساميل المادية (أي رؤوس الأموال). وهو واقع يجلعنا نقول
إنّ المعركة الأساسية التي علينا خوضها لن تكون ضد "الحداثة" (لأننا لم
نبلغها بعد)، ولا ضد الإسلام السياسي أو
اليسار الثقافي (لأنهما مجرد ملحق وظيفي
بنظام الدروشة الذي تحكمه نواة جهوية وزبونية معروفة)، بل ستكون ضد ثقافة الدروشة
ذاتها، وذلك مهما كانت تلبيساتها وغطاءاتها الأيديولوجية.