باتت الجريمة في العالم العربي تمثل تحديا أمنيا وسياسيا واجتماعيا هائلا. ولئن كانت الجريمة في الغالب حصيلة عدة أسباب وعوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فإنها أصبحت تمثل تحديا فكريا واستراتيجيا أمام نخب المجتمع وصانعي القرار السياسي والأمني والاجتماعي فيه.
فما الذي يجعل الجريمة تنتشر في مجتمع أكثر من مجتمع آخر؟ وكيف يمكن تفسير الانفجار الكبير في الجريمة كما ونوعا؟ وأي علاقة لمشكل الهوية والتحديث القسري بانتشار الجريمة؟ وما الاستراتيجية الواجب اتباعها للسيطرة على تفجر الجريمة ومحاصرتها وتجفيف منابعها؟ وما دور وسائل الإعلام والثقافة ورجال التعليم والإعلام وأيمة المساجد في مواجهتها؟
يحاول هذا التقرير تقديم إجابات عن هذه الأسئلة مركزا على الحالة التونسية باعتبارها حالة نموذجية.
موقع متقدم كما ونوعا
عربيا تحتل تونس الموقع العاشر من بين 21 دولة عربية من حيث مؤشرات الجريمة، وتحتل المرتبة 50 عالميا من بين 117 دولة تمت دراسة مؤشرات الجريمة فيها. ورغم أن أولى الدول العربية وثانيتها من حيث مؤشرات الجريمة جارتان لتونس، وهما ليبيا ثم الجزائر، فإن تونس حافظت على مؤشرات معقولة نسبيا قياسا بجارتيها. وربما يعتبر الانفلات الأمني الحاصل في ليبيا السبب الأصلي لارتفاع مؤشرات الجريمة فيها. أما الجزائر فلعل آثار الحرب الأهلية التي عرفتها البلاد في مطلع تسعينيات القرن العشرين، بعد إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مازالت تلقي بظلالها على المشهد العام وعلى قراءة مؤشرات الجريمة المرتفعة فيها.
تحتل تونس الموقع العاشر من بين 21 دولة عربية من حيث مؤشرات الجريمة، وتحتل المرتبة 50 عالميا من بين 117 دولة تمت دراسة مؤشرات الجريمة فيها
اقرأ أيضا: جريمة مروعة تهز تونس ضحيتها أم وثلاثة من بناتها
الملفت أيضا في تونس أن نسب الجريمة فيها تزيد بطريقة مخيفة. فالجرائم في ازدياد ثابت لا تراجع فيه تقريبا كل عام. فمثلا بين النصف الأول من العام 2017 والنصف الأول من العام 2018 سجل المعدل العام للجريمة زيادة بأكثر من 20 في المائة في تونس بحسب الناطق باسم الإدارة العامة للأمن العمومي، وليد حكيمة.
وأوضح حكيمة أنّ جرائم القتل في تونس شهدت ارتفاعا بنسبة 46 في المائة، خلال النصف الأول من عام 2018 مقارنة بنفس الفترة من سنة 2017. ولفت المسؤول الأمني في تصريح لوسائل الإعلام، الأنظار إلى أنّ جرائم العنف ارتفعت أيضا بنسبة 12 في المائة خلال نفس الفترة، أما جرائم السرقة والسلب باستعمال العنف فقد سجّلت تراجعا طفيفا بـ7 في المائة.
محاولة في التفسير
اعتباطية الكثير من الجرائم ووحشية بعضها ودناءة بعضها الآخر وتحويل الجرائم بما فيها جرائم القتل إلى عمل مسرحي فرجوي يجري في الهواء الطلق، أمام جمهور المشاهدين، من دون أن يحرك ذلك رد فعل من المتفرجين، كما يقول أستاذ علم الاجتماع ووزير الثقافة الأسبق الدكتور مهدي مبروك، يكشف عن تخلخل ما نفسي وقيمي في المجتمع التونسي. فاغتصاب عجوز في الثمانين ثم قتلها أو اغتصاب معاقة ثم سرقة القليل مما لديها وقتلها واغتصاب طفل صغير ثم قتله يعبر عن اضطراب شديد في نفسيات الناس وفي سلم القيم في المجتمع وفي بناه. فما سر هذا الاضطراب وكيف يمكن فهمه وتفسيره؟
الاستبداد أب الجرائم
معظم المتورطين في الجرائم عامة والجرائم الخطيرة خاصة في تونس اليوم شباب في العشرينيات والثلاثينيات. وهؤلاء هم حصيلة نظام الاستبداد الذي اكتوت تونس بناره لعقود طويلة. شوه الاستبداد الناس في أعماقهم وعمق فيهم ازدواجية الشخصية وطبعهم بالنفاق وبالمصلحية والأنانية والوشاية حتى يتمكنوا من تجنب شره ونيل رضاه وتحقيق بعض المنافع من ورائه. وتكشف الأرقام الرسمية أنه كان في تونس قبل الثورة أكثر من 40 ألف واش من خارج أجهزة الأمن، وهو رقم مرعب في مجتمع من 11 مليون مواطن.
كما غذى الاستبداد الميل إلى العنف في الشباب باعتباره أقرب الطرق لتحصيل المكاسب والمنافع وإحقاق الحقوق واستعادتها. ففي ظل نظام القهر والاستبداد ولد معظم المنخرطين في الجريمة اليوم ودرسوا في عهده وتربوا في الشارع وعبر وسائل الإعلام والثقافة.
وليس من الغريب والحال هذه أن تكون تونس الدولة الصغيرة نسبيا مساحة وسكانا من أكثر الدول المصدرة للدواعش إلى مناطق الحروب مثل سورية والعراق وليبيا وغيرها. فمن تونس خرج أكثر من 6 آلاف داعشي، وهو ثلاثة أضعاف ما صدرته المغرب، رغم أن عدد سكانها ثلاثة أضعاف عدد سكان تونس. وإذا كان 6000 شاب قد اختاروا العنف المسلح في صفوف داعش فإن آخرين اختاروا العنف الإجرامي في أحياء الفقر والخصاصة المحيطة بالمدن الكبرى.
التحديث القهري خلخل بنى المجتمع
يلعب الفقر والحرمان والخصاصة وضعف التربية العائلية والتعليمية أدوارا مهمة في انتشار الجريمة. في المقابل فإن تماسك المجتمع وعمق وعيه بهويته وقوة تمسكه بها تساهم في حصار الجريمة وتضييق نطاقها. وقد عرفت الهوية التونسية خلخلة شديدة منذ الاستقلال مع مساعي الدولة للتحديث القسري، بما أربك المجتمع وخلخل بناه التقليدية، دون أن تنجح الدولة في بناء هوية جديدة متماسكة وجامعة.
فقد تميزت تونس عن سائر شقيقاتها العربيات بتحديث قسري فرضته الدولة بالقوة والعنف على المجتمع. فإغلاق جامع الزيتونة مباشرة بعد الاستقلال، وهو أبرز مؤسسة علمية ودينية في المغرب العربي كله بل وإفريقيا بأسرها، وله تاريخ عريق ضارب الجذور لم يمر دون أن يترك أثرا سلبيا على المجتمع. فقد خلق ذلك الحدث الكبير وما أعقبه من تجفيف منابع التدين في البلاد فراغا هائلا ملأه التطرف الديني من جهة والتحلل من ربقة الدين من جهة أخرى فضلا عن استشراء الجريمة وتعاطي المسكرات والمخدرات بأنواعها.
اقرأ أيضا: تونس.. جامع الزيتونة 1300 عام من المعمار والتعليم
كما أن خروج المرأة المكثف للعمل قد خلق أجيالا تعاني من أخلال تربوية حادة. فالطفل الذي يقضي معظم وقته بعيدا عن حضن أمه ينشأ بارد المشاعر وربما عدوانيا. كذلك فإن الحقوق المتطرفة للنساء وإقرارها بالفرض والإسقاط من أعلى من قبل الدولة دون قبول اجتماعي واضح لها خلخل الأسرة التونسية وجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تنافسية وأكثر الأحيان صراعية. وفي بيئة الصراع والطلاق تنشأ أجيال غير سوية، سهل جرها بيسر للجريمة بمختلف أنواعها.
ويلاحظ في هذا السياق أن جغرافيا الجريمة تؤكد أن أكثر من 80% منها تقع في تونس العاصمة ومنطقة نابل وبنزرت والساحل وصفاقس، وهي المناطق والمدن التي تعرضت أكثر من غيرها للتمدين والتحديث القسري وعنف الدولة الحديثة. في المقابل تقل الجريمة في الجنوب والمناطق الداخلية، حيث البنى الاجتماعية التقليدية مازال لها حضور وتأثير اجتماعي ونفسي واضح.. وإن وجدت فيها أحيانا جرائم شديدة البشاعة.
الانفلات الأمني وانتشار المخدرات
شهدت الجريمة في تونس ما بعد الثورة زيادة كبيرة كميا ونوعيا. فالانفلات الأمني وغياب الردع أغرى الكثير من المجرمين باقتراف مزيد من الجرائم وهم آمنون من العقاب.. ومن أمن العقوبة أساء الأدب كما تقول العرب. وقد لعبت المخدرات التي استشرى وجودها في البلاد دورا محوريا في زيادة الجريمة واستسهالها وزيادة بشاعتها، فصرنا نرى جرائم اغتصاب وقتل بدم بارد مخدر.
تونس.. الفكري والسياسي في انتفاضات الشتاء ومحذور الفوضى
تونس.. إضرابات التعليم العام تدعم الخصخصة وتعرقل الإصلاح
"مسرح العراء" و"الابتذال".. يثير غضب التونسيين