الكتاب: الظاهرة السلفية بالوطن العربي في القرن العشرين :المفاهيم ـ التيارات ـ الأطروحات
الكاتب: الدكتور كمال الساكري
الناشر: دار شامة للنشر ـ تونس، الطبعة الأولى، مارس 2018
يبدو أن معظم التعريفات التي وضعت للسلفية قد اكتفت بمفهوم السلفية المرتبط بنشأتها وذهلت عن التغييرات الجذرية التي طرأت على الظاهرة السلفية خلال مسار تطورها في القرون اللاحقة.
استقرار المفهوم
وهو الأمر الذي نبه إليه الباحث كمال الساكري من خلال تتبع مسار السلفية في الحقب التاريخية، فقد استمر مفهوم السلفية على حاله منذ النشأة في القرن التاسع الميلادي إلى نهاية القرن التاسع عشر. حافظ المفهوم على جوهره مدة عشرة قرون. وساعد على الإستقرار والمحافظة عموم الفكر السلفي كلا من الغالبية العظمى من سواد الأمة ومعظم الفقهاء وسلطات الحكومات المتعاقبة على الدولة العباسية أو الموالية لها. فرأينا عهد المتوكل بالله (847-861 م) يذعن لأمر السلفية بزعامة أحمد بن حنبل (780 ـ 855 م) ويبطل الدعوة المعتزلية وخلق القرآن ويعلن اعتماد المنهج السلفي في الحكم والدين.
وسمعنا عن سطوة البيان القادري فترة القادر بالله (991 ـ 1031م) حين ساد البيان القادري السلفي الدولة والدين وكفر من خالفه من دعوات إسلامية منافسة من معتزلة وشيعة فاطميين باتوا يهددون الخلافة العباسية في الحكم والمذهب.
وقرأنا عن نجاح المرابطين (1056 ـ 1147م) في بناء ملكهم بالمغرب الأقصى وبلوغهم الأندلس في فترة ارتخى فيها الحكم العباسي المركزي وتضعضع حكم ملوك الطوائف بالأندلس نتيجة انشغالهم بالمتع واللهو والصراع فيما بينهم متناسين تربص الأسبان الدوائر بهم.
الوهابية وعودة السلفية
واستطاع المنهج السلفي أن يكتمل ويحدد عن طريق ثاني أكبر مؤسس للسلفية التقليدية الشيخ ابن تيمية وعرفت الدعوة السلفية أوجها بقيادتها للحروب المتصدية للصليبية والتتار في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلادية، فسطع نجم العز بن عبد السلام (1181 ـ 1262م) وابن تيمة (1263 ـ 1328كم) من العلماء وصلاح الدين الأيوبي (1138 ـ 1193م) والظاهر بيبرس (1223 ـ 1277) وخليل قلاوون (1268 ـ 1294) وغيرهم من القادة العسكريين. ولئن تراجع حضور السلفية بعد سقوط الدولة العباسية وبسط الخلافة العثمانية نفوذها وعموم الوطن العربي بداية من مطلع القرن السادس عشر ميلادية باحتلال القدس (1516م) ثم بغداد (1530م) فبقية الأقطار ما عدا المغرب الأقصى، فإن بروز الوهابية للوجود في منتصف القرن الثامن عشر (1744م) كان إيذانا بعودة السلفية لواجهة الأحداث والإعلان عن استئناف السلفية التاريخية نشاطها ومحافظتها على المفهوم التقليدي للسلفية.
إقرأ أيضا: السلفيون.. كارثة على الدين والدنيا
يرى الباحث أنّ للإيديولوجيا السلفية أيديولوجيتان: أيديولوجيا كلاسيكية ماضوية عقدية جامدة وأيديولوجيا عقلانية تجديدية شاملة وحداثية. إلا أن انقسام السلفية إلى قسمين كبيرين من حيث الأيديولوجيا وقاعدتها الإبستمولوجية لا تمنع تفرعها إلى سبع تيارات متمايزة. فمنها السلفية الأم والمعروفة بالسلفية التاريخية أو الكلاسيكية التي ورثت مذهب أحمد بن حنبل وتنظيرات السلفيين وإضافات ابن تيمية وتطبيقات الدولة المرابطية والدولة الوهابية. ومنها السلفية الإصلاحية بقيادة زعماء الجامعة الإسلامية النابذة للجمود الديني والمنادية بالتجديد والإجتهاد العقلي والمحاربة للتخلف والإنغلاق والعاملة على النهوض الحضاري والتمدن والتقدم العصري. ومنها السلفية الوطنية الرافعة للواء الإستقلال الوطني من براثن الإستعمار الغربي والحاملة لمشروع تحرري ضد الجمود والإنغلاق. ومنها السلفية الجهادية التي رفضت الدعوة السلمية لبعض شيوخ السلفية وزعمائها في إصلاح الحكام ونشر الإسلام ورفعت لواء الجهاد وسلاح العنف فسموا بالسلفية الجهادية. ومنها السلفية العلمية التي رفضت العنف والجهاد ونادت بتصفية التراث وبتربية النشء على قيم الإسلام السمحة طريقاً للتمكين. ومنها السلفية الحركية المشهورة بالسرورية التي دمجت بين العقيدة السلفية والحراك السياسي الإخواني ومنها السلفية الولائية المنسوبة إلى الجامي وربيع المدخلي والمجرمة لمناوأة أولي الأمر أو معارضتهم أو الخروج عليهم بأي شكل من الأشكال.
تمايز سلفي
ولقد دلّل الباحث على تمايز هذه السلفيات السبع من حيث استقلال كل حركة بذاتها قيادة ومقولات وهيكلة تنظيمية وأكد أن ولاءها عقدي تنظيمي لا وطني سيادي، ولا يتميز تيار عن آخر من حيث الكلاسيكية والحداثة بتاريخ النشأة وإنما بطبيعة الأطاريح العقدية والدينية التي يؤمن بها. وعلى هذا الأساس وبعد أن عرف الباحث تلك التيارات السبعة حسب تاريخ ظهورها احتراماً للتحقيب التاريخي واتباع مسار تطورها، فإنه صنفها حسب معيار الحداثة والكلاسيكية إلى أيديولوجيتين: واحدة كلاسيكية وتضم السلفية الأم والجهادية والعلمية والحركية والولائية وأخرى حداثية وتتكون من السلفية الإصلاحية والوطنية.
وسعياً إلى تدقيق مفهوم السلفية راعى الباحث الساكري البعدين الأساسيين في الإحاطة بالظاهرة السلفية، وهما: البعد المعرفي والبعد الإجتماعي. وهو ما قصرت فيه التعريفات الأخرى حينما لم تدرك خضوع المفهوم للتصورات العرفانية والإجتماعية وهي متعددة في الواقع ومتضاربة بل ومتناقضة من ناحية أولى وتفاوت أطروحاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية وتناقض ابستمولوجياتها قاعدة أيديولوجياتها من ناحية ثالثة. فجاءت المفاهيم جزئية قاصرة عن الإحاطة بالكل السلفي أو تعميماً مخلا، أو قراءة أيديولوجية متعصبة أقصت القراءات المخالفة أو قراءة جامدة للسلفية جاهلة أو متجاهلة لأهمية الجانب المعرفي الإبستيمي في تشكيل الأيديولوجيات.
الوهابية بوصفها السلفية المرجعية الأم
كشف الباحث الساكري في الباب الثاني مفهوم تلك التيارات السلفية السبعة للسياسة وفهمها لها في بعدها الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وطريقة ممارسة العمل السياسي مما شجعه على التعمق في تحليل البعد السياسي لدى السلفية للإجابة عن الفرضية الأولى: السلفية صاحبة مشروع سياسي على عكس الإعتقاد السائد.
لقد ساد الاعتقاد في الأوساط الشعبية والعلمية أن السلفية حركة دينية دعوية تهدف إلى إحياء الإسلام وتطهير العقيدة مما شابها من شرك وتحريف. ولقد عملت المقاربة الجزئية التي اعتمدها أغلب الدارسين للسلفية على تكريس هذا الفهم حتى أصبح فكرة بديهية مسلما بها. ولقد شكلت هذه المقاربة أحد العوائق الإبستمولوجية في الإحاطة الشاملة بالسلفية ولاسيما بعدها السياسي لكن تدرج الباحث الساكري في الإجابة عن الفرضية من خلال تحديد مفهوم السلفية وطبيعة التيارات الممثلة لها في البابين الأول والثاني ثم تعريفه لأهم أطروحاتها المختلفة في العقيدة والشريعة، أي طرحها الديني والسياسي في الباب الثالث مكنّه من أن يؤكد الفرضية مائة بالمائة حينما استنتج أن السلفية بتعدد تياراتها وتنوع مقارباتها وباختلاف تصوراتها للسياسة بمفهومها الواسع، وإن بدا بعضها في الظاهر بعيداً عن هذه السياسة أو رافضاً لها، فإن كافة السلفيات تحمل مشروعاً سياسياً قد يكون مباشراً عند البعض وفق المعتاد والسائد وقد يكون مبطناً وغير مباشر وفق طريقة مغايرة للمعتاد عند البعض الآخر.
ساد الإعتقاد في الأوساط الشعبية والعلمية أن السلفية حركة دينية دعوية تهدف إلى إحياء الإسلام وتطهير العقيدة مما شابها من شرك وتحريف
إقرأ أيضا: الوهابية.. ظاهرة دينية مصنوعة أم امتداد لنسق الحنابلة؟
لقد قامت السلفية الأم ممثلة في الوهابية على ميثاق نجد الذي يسمح بتقاسم الداعية محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود الأدوار كل حسب اختصاصه لتسيير الدولة وتوسيع الملك أي تتماهى فيها السلطة الدينية والسلطة السياسية رسمياً وتتقاسمان الأدوار بالتساوي في فترة التأسيس والاستقرار قبل بناء دولتها على عهد عبد العزيز آل سعود سنة 193، ولكن في فترات الحرب ومواجهة الأعداء كانت الكلمة تؤول إلى رجل السياسة والدليل على ذلك هيمنة الملك عبد العزيز على الحكم وتهميشه دور علماء الدين منذ تفجر الصراع بينه وبين معارضيه بسبب إيقاف عبد العزيز آل سعود توسع الدعوة الوهابية في الخليج والجوار منذ 1929 التزاماً منه بخريطة بريطانيا والقوى الدولية الكبرى.
ولعل أوضح موقف فيه موالاة لحكام السعودية في اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الكافر حسب حكمها الفقهي لمحاربة العراق بسبب غزوه للكويت فيما عرف بالاستعانة بالأجنبي.أما السياسة بأبعادها المختلفة فهي تبرير لسياسة ولي الأمر والحكم الملكي الثيوقراطي والطبقي التراتبي القروسطي المفروض تاريخياً على المجتمع والذي يحرم العلماء الوهابيون فيه الخروج عنه موظفين القاعدة الفقهية الموروثة وغير الحائزة على الإجماع حول صحتها في عدم الخروج على ولي الأمر مهما ظلم مكرسين لأيديولوجيا السمع والطاعة مدافعين عمن يعتقدون أنه الولي الشرعي، أما المعادي لهم والمتنازع معهم فيسارعون إلى تكفيره وإباحة دمه. فدلّ تاريخهم منذ نشأتهم على اتباع الدين والعقيدة لديهم للمصلحة والسياسة لا العكس.
إقرأ أيضا: السلفية الوهابية أصل الإسلام السياسي في الوطن العربي (1من3)
السلفية الوهابية أصل الإسلام السياسي في الوطن العربي (1من3)
"ثغور المرابطة".. أحوال الأمة من زاوية نظر فيلسوف (2-2)
"ثغور المرابطة".. أحوال الأمة من زاوية نظر فيلسوف (1من2)