كتاب عربي 21

ذاهبون حيث لا نريد

1300x600
في حالة الشجن، تتدفق الجمل الحزينة على الأقلام المنحوتة من قلوب. أحدهم يسوق قطارنا نحو جهة يعلمها، ولقد ركبنا وسقينا القطار من أكبادنا وقلنا الوطن، فإذا نحن مسافرون إلى غير غاية، ونقول الوطن، والوطن يقول يا أكبادي ثم يعرضنا في سوق الرقيق. رقيق الوطن نحن نراكم الجمل الشجية ونتعزى، والقطار يطوي سكة الزمن. ونسأل أنفسنا في المرايا، أين نحن ذاهبون؟ والحكومة لا تجيب، بل تكتفي برمي أكبادنا في المراجل ليسير قطار لا نقوده نحو غاية ليست لنا. هي لحظة تفسد التحليل وتخلط الفكرة بالدمعة، فالوطن لا يحتمل برود أعصاب الكتاب المتحذلقين بالموضوعية. أين نحن ذاهبون؟ القطار يسير والوطن يسير، لكن إلى أية غاية؟ في الهزيع الأخير من الليل نستسلم للدعاء، ونفيق لنطعم الوطن من أكبادنا، ونقول لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا. ذلك الأمر، المستقبل يقتضي السيطرة على مقود القطار. لكن بمن ومع من؟

الشاهد ليس زعمينا

خرج علينا من السفارة الأمريكية خبير بذور مهجنة فوجدناه رئيس حكومتنا، وألجأنا الخوف على المستقبل إلى القبول به قائدا للمرحلة. وهو لا يحسن القياد؛ لأنه يدفع قطار الوطن إلى حديقة بيته. هل كان علينا أن لا نخاف على المستقبل؟ كيف والبلاد يوقفها مهرب نفط ويأسر جنودها، فيسقط كل قانون، وتحاصر شرطة فاسدة قضاتها، فيحكم القاضي للفاسد على الصالح؟ كيف ونحن نرى رئيسها يأخذ البلاد غنيمة باردة لولده كأنها ميراث من جد قديم؟

هل تردّينا إلى هذا الحد؟ نعم.. تراكمات السنوات الثماني الماضية كشفت أن صالح الوطن ليس محل إجماع بين نخبه، وخلافات النخب انعكست على مسار الانتقال الديمقراطي فوجد فيها أمثال الشاهد مكانا، وما كان له فهو ليس من ثوار ديسمبر، ولا ممن ناضل ضد الدكتاتورية في زمن كانت الكلمة تعصف برأس المتكلم، كأنما ولد الرجل ليصير رئيس حكومة، ويجده الناس بديلا لفوضى تديرها عقول قصيرة النظر عن مطالب الوطن. نحن الآن هنا والشاهد رئيس حكومتنا، ونعول عليه ليقودنا إلى انتخابات. وليس لدينا - رغم كل التنازلات - ضمانات للوصول إليها، فهي القشة الأخيرة للنجاة.. يحتاج الوضع إلى وقفة لتحميل المسؤوليات.

نخب غريبة عن أوطانها

نخب مشدودة إلى قضاياها الشخصية، وتكيد لبعضها وتزايد.. هناك اتفاق شامل على أن الاعتماد على الإقراض الخارجي يرهن البلد لقوى دولية تملي عليه رغباتها، من سيناريو الفيلم السينمائي إلى منعه من مد شبكات الطرقات التي يحتاجها لربط مفاصله المقطعة بالفساد والمحسوبية. هذا خطاب مشترك، لكن الرد عليه لم يأت. الرد عليه كان ولا يزال بوحدة وطنية بين جميع مكونات البلاد السياسية والمالية والإدارية. 

الوحدة الوطنية تعني القبول والتسليم بالمسار الانتقالي بالصندوق الانتخابي، لكن بات واضحا أن الصندوق يقضي على البعض ويخرجه من المشهد، بينما يقدم آخرين فيحكمون. هناك من لا يريد التسليم لقوة الصندوق، لذلك يختلق المعوقات للمسار. هذا الخلاف النخبوي الذي لا يراعي حاجة الناس في القاع الاجتماعي؛ قسم البلد وسلمه إلى مؤسسات الإقراض التي تضع برنامجها على الطاولة، أي تقود قطار البلد إلى غاية تريدها، ونركب نحن إلى محطة لا نريدها. ففي كل تنازل داخلي يتهرب من المواجهة يخسر البلد، ويربح المقرضون بلدا بلا قيادة؛ لأنه بلد بلا نخبة مؤمنة بالوطن.. سأقول نخبة خائنة.

الحق بين لكن ليس له جنود

تداول ست رؤساء حكومات على البلد منذ الثورة، وعجزوا جميعهم عن اقتحام مسبعة الجمارك في ميناء رادس، بوابة اقتصاد البلد.. نقابة العتالين بالميناء أقوى من كل الحكومات، لذلك حولت الميناء التجاري إلى بؤرة فساد وحرمت الاقتصاد من مصدر قوة كانت تغنيه عن الاقتراض.

تتشاطر الحكومة على باعة السلع المهربة الصغار وهم من الفئات الأفقر، لكنها ترى مصدر السلعة المهربة، وتخشى من كبار المهربين فتخلق ضحايا من الصغار، وهي ضحية مثلهم. ولم يبق الآن إلا تنظيم نقابات للمهربين الكبار لتقف في وجه كل رقابة على السوق، حيث يفترض أن يستهلك المواطن سلعا محلية، كما تحرضه الحكومة متخفية وراء إعلام تعيس.

تنهار سمعة المطارات التونسية في العالم، وتخسر شركة الطيران الملايين كل يوم نتيجة استبداد النقابات على الأرض وفي السماء. وتعتبر خدمات الشركة هي الأسوأ في حوض المتوسط، إذ غدت مضرب المثل في الإخلال بالمواعيد. وتضخ الحكومات أموالا طائلة في الشركة كي لا تنهار، عوض أن تنتظر منها رفد الموازنة بالعائدات. وتستعد النقابة لمزيد من الإضرابات بها حتى لا يتم التفويت.

كم على المرء أن يعدد من وجوه الفساد المستشري بدعم نقابي؟ لوحة سوداء، نعم، لكن النقابة هي من يحمل سطل الدهن الأسود لتسويد وجه المرحلة. ويجد رئيس الحكومة بغيته في الهروب إلى الاقتراض ليدعم مركزه بسند خارجي، عوض مواجهة النقابة. لا أحد يريد مواجهة النقابة، رغم أن الجميع في الكواليس يقولها: النقابة سبب خراب البلد، فإذا جلس إلى النقابيين بكى خوفا. الحق بين ولكن له رجال.

المعركة مع النقابة قادمة

فإما خلاص وإنقاذ، أو حرب أهلية. تهرب الجميع من المواجهة، فزادت النقابة في الغطرسة والاستبداد. والشاهد يعرف أن لا خلاص إلا بالحسم مع القوى السياسية المسيطرة على النقابة. فحتى مسألة طموح الرئيس إلى توريث الحكم؛ ما كانت لتظهر للسطح لولا تواطؤ النقابة مع الرئيس، وهي تعرف كما يعرف كل التونسيين أن التوريث معركة مخسورة.

لا معنى لما يجري من انتقال ديمقراطي بالصندوق إلا بالحسم مع النقابة الحكومة القادمة (نفترض أننا وصلنا إلى محطة انتخابية أخرى بحكومة أخرى). ستكون كل الحكومات تحت رحمة النقابة، وبالتالي لن تفلح في أي إنجاز مهما صغر.

خطاب النقابة هو الأعلى ضد الارتهان للمقرضين، لكن الفعل على الأرض يدفع كل الحكومات إلى الارتهان، أو التوقف عن كل فعل حتى الحسم مع النقابة. البلد غير قابل للحكم (UNGOVERNABLE) بفعل النقابات لا غير. التعليم تعطل، وخسرت المدرسة العمومية سمعتها ومصداقية شهادتها الدراسية، والجامعة تحولت إلى بؤرة فشل منظم برعاية نقابية، والاقتصاد يعاني عملية تخريب منظمة، والإدارة استقوت على الدولة، ونبحث فنجد النقابة خلف كل هذا تنظم أركسترا التخريب. هنا نفهم تيه القطار التونسي عن محطته المقصودة.

قبل الموقف الحاسم من مؤسسات الإقراض الدولية، وقبل وضع منوال تنمية جديد، وقبل إعلاء الصوت بنجاح الانتقال الديمقراطي والتجربة التونسية الفذة الفريدة.. وجب الحسم مع النقابة بقوة الدولة وبمجلس الأمن القومي إذا اقتضت الحالة ذلك.

البلد أسير النقابة، وكل هروب من هذه الحقيقة هو جبن مقنع بخطاب سياسوي ذليل. ليس يوسف الشاهد من سيفعل ذلك، وليس التشكيل السياسي الذي يسند حكومته الآن، وكل حكومة قادمة ستجد نفسها في نفس الموقع الذليل أمام النقابة. للتجربة التونسية عدو داخلي، هو النقابة التي وضعت أجندة غير وطنية؛ تقودها الأحقاد السياسية ولا علاقة لها بخدمة الناس كما تفعل كل نقابات العالم. هذه معركة لا ينفع معها التأجيل. إذا ظهر سياسي شجاع يقود هذه المعركة، ساعتها سنقول إن القطار التونسي قد عدل مساره نحو محطته التونسية.. حتى ذلك الحين، سنكتب جملا شجية، وسنبيت الليل ندعو الله أن يحسن الخاتمة.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع