في الجذور الفلسفية للسلوك البشرى وعوامل التحريك والتغيير فيه وإمكانية صناعة هوية الفرد والمجتمع
أبحر علماء النفس القدامى والمعاصرون في الإجابة عن أسئلة السلوك البشري: ممَّ يتكون؟ وما هيكليته؟ وما عوامل التحكم والتغيير فيه؟
وأحكم من جمع وأجاب ورسم وصوّر هذه الإجابات؛ هو المفكر المصري الدكتور "زكي نجيب محمود"، حين رسم صورة هيكلية للسلوك الإنساني، نبدأ بها..
الشكل يبين الحلقات الثلاث المكونة لوحدة السلوك البشري
الحلقة الأولى: وهي المثير أي العامل الإدراكي الذي يتلقاه الإنسان نتيجة تفاعله مع المحيط الخارجي، وما يمكن أن يحقّق من سعادة أو حزن أو رضى وعدم رضى أو فزع وهلع... وغالبا ما يكون خارج التحكم والسيطرة.
الحلقة الثانية: وهي بنيته وطريقته ونظامه الداخلي في التعاطي مع المثير الخارجي، والتي تتحكم فيها أشياء كثيرة كلّها تحت التحكم والسيطرة، حيث تأتي نتيجة لتفاعل منظومة المعتقدات والقيم والمفاهيم والتصورات والأهداف التي يمتلكها الفرد.
البنية الداخلية للفرد= (المعتقدات × القيم × المفاهيم × التصورات × التطلعات والأهداف التي تلقاها في بنيته التربوية من الأسرة والمدرسة والمجتمع).
الحلقة الثالثة: النمط السلوكي الذي يتخذه الفرد، وهو الإطار العام المنظّم الذي تخرج فيه ردود الفعل ومخرجات الحلقة الثانية.
وعلى هذا الأساس، وجد الدكتور زكي نجيب محمود أن شيفرة الشخصية، والهوية الثقافية للفرد ولأي مجتمع؛ تكمن في الحلقة الوسطى.
مثال توضيحي لبيان أثر وحاكمية الحلقة الوسطى في سلوك الأفراد والمجتمعات
الشكل يبين ثلاث مجتمعات مختلفة في تكوينها الداخلي، تتعرض لمتغيِّر واحد ثابت وتغيُّر النتائج في الحالات الثلاث
مما سبق يتأكد لنا أن:
- البنية الداخلية للإنسان هي المتحكم الرئيسي في سلوكه ونمط شخصيّته وأدائه وإنجازه.
- البنية الداخلية تختلف من فرد لآخر بحسب النشأة والمدخلات التربويَّة.
- قابلية النفس البشريَّة لتنوع البنى التربويَّة التي يمكن أن تتلقاها وتتأثر بها.
- إمكانية التحكم في تشكيل وتوجيه البنية التربوية للفرد والمجتمع. وكل ذلك يؤكد ويؤسس لإمكانية صناعة وتطوير الشخصية والهوية.
ـــ في الجذور الفلسفية للسلوك البشري وأسس وخيارات تطوير القيم والسلوك والأداء الحضاري العربي:
تعرضت القيم والهوية العربية الإسلامية للكثير من المغالطات العلمية والاستراتيجية الكبرى، والتي ساهمت في ضعف وتآكل القيم والهوية العربية الإسلامية الخاصة، وأدّت إلى تراجع قوتها البشرية وفاعليتها الحضارية، فنشأت المغالطات أولا داخل الجسد والذات العربية الإسلامية التي ظنت أن:
- القيم والمبادئ تورث فقط، ولا تصنع، وتتطور وفق مقتضيات العصر واحتياجاته المتزايدة والمتطورة باستمرار.
- العلم ينقل فقط من الأولين، ولا ينتج، ويتطور باستمرار وعلى مدار الساعة، ما دامت الحياة قائمة.
- العلوم الإنسانية توقفت مع الوحي وتفاسير الأولين العظماء، أما العلوم الكونيَّة فمستمرة.
- تغافلت، وربما لم تصل إلى أنَّ القيمة أمر مجرد نظري ثابت، بيد أن مفهوم القيمة يتطور باستمرار وفق المجالات والمستويات والآفاق والفضاءات الجديدة التي تنشأ وتحتاج لعمل القيمة.
- القيمة مجرد ثابت، بيد أن التطبيقات السلوكية لكل قيمة تختلف من مرحلة عمرية ونوعية ومن مجال مهني لآخر، ومن مجتمع وظرف إلى مجتمع وظرف آخر، بمعنى أن القيم تحتاج إلى أدلة سلوكية إجرائية دائمة التحديث والتطور، قابلة للتربية والتوطين المجتمعي كثقافة ونمط حياة، ومستويات أداء وإنجاز اقتصادي وحضاري شامل في ظل هذا الفراغ الشاغر في العقل المسلم، والإنتاج العلمي اللازم لعلم القيم والهوية. وتُركت الساحة شاغرة لاتهام الإسلام بالتقادم والتراجع والتخلف، وأنه سبب تخلف العرب والمسلمين، حتى تعالت أصوات ودعوات تنادي بالتخلي عن قيم ومبادئ الإسلام، والهروب إلى التحديث الغربي..
إذا، هي مشكلتنا الذاتية مع التخلّف العلمي في مجال علم القيم والهوية.
وأتصور ساعة أنه نستكمل تأسيس وتطوير علم القيم والهوية سيتسابق العالم لينهل منه، وهذا أمر متوقع وسيحصل في قادم الأيام إن شاء الله.
لنتابع الآن إحدى أهم هذه المغالطات الكبرى، والتي جمع أطرافها وحباتها ونظمها في عقد واحد؛ المفكر المصري الكبير الدكتور "زكى نجيب محمود"، ممثلا عن تيار التجديد الديني اللازم في ثقافتنا العربية.
وثيقة منظومة القيم.. الديمقراطية (6)
وثيقة منظومة القيم.. التكافل الاجتماعي (4)