أكثر من يُطنطنون عن
الفساد في
مصر لا يعرفون تفاصيله ولا حجمه، ولا أنه نخاع هذا البلد الحقيقي الذي قد يقوِّضه في لحظة، ولا أنه قد صار القاعدة "المقنَّنة" منذ عقود؛ القاعدة التي تواطأ عليها المجتمع والسلطة السياسية.
وأكثر المتشدقين بمحاربة الفساد لا يعرفون مثلا أن التقاضي أمام المحاكم المصرية، بما أنه عمليّة بيروقراطية تخضع كليّا للمستندات التي توضع أمام القاضي؛ فإن هذه المستندات نفسها يمكن شراؤها بالكامل، أو شراء الخطير منها أو تزويره أو تدميره لقاء مبلغ معقول. بل يمكن أن يختفي ملف أي قضية بالكامل من المحكمة أو النيابة لقاء ثمن مناسب للموظف المختص، حتى يموت المظلوم بحسرته إن كان القاضي نزيها، وهي استثناءات لا يعول عليها! وهذه ليست حالات شاذة من الفساد الإداري العارِض؛ بل هي شبكات مُنظَّمة معروفة ومشهورة في كل دائرة قضائيَّة، ومثلها شبكات واسعة الانتشار في كل الدوائر الخدميَّة الحكوميَّة التي تتعامل مباشرة مع الجمهور.
وأكثر الناشطين والحالمين بالتغيير في مصر لا يعرفون مثلا أن وزارة الداخلية تعتمد بالكامل في تحرياتها ومعلوماتها على المشبوهين والمسجَّلين الخطرين، وعتاة المجرمين؛ وهي شبكة تغطي القطر كله وتديرها طبقة أمناء الشرطة وضباط الصف كواجهة. بل ولا يعرفون أن الداخلية هي أكبر تاجر مخدرات في مصر، تماما كما أن البنتاغون هو أكبر تاجر مخدرات في العالم! ولك أن تتخيَّل نوع "العدالة" التي يمكن أن تحظى بها في منظومة كهذه؛ منظومة يقوم عليها فعليّا مُعتادو الإجرام وأذيالهم من أفراد الشرطة!
أما السُذج المتطلِّعون للمناصب السياسية، فقد يسمعون مثلا أن المحليات (إدارات الأحياء والمحافظات) غارقة في الفساد إلى "الرُكَبْ"، كما قال زكريا عزمي تحت سقف برلمان مبارك؛ وهو تصريح لو يعلمون لا يفي الظاهرة حقها، وإن كان مفيدا صدوره قبل عقدين من الرجل الذي شغل رئاسة ديوان حسني مبارك! ففي المحليات/ البلديات - أعزكم الله - لكل شيء ثمن و"تسعيرة"؛ بناء طابق مخالف له تسعيرة، وسرقة التيار الكهربي له تسعيرة، واستخدام عقار بعكس ما رخص لأجله له تسعيرة.. إلخ. باختصار؛ فإن ما يسمى بالمحليات دكان حكومي نماذجي لبيع أي شيء وكل شيء لمن يملك الثمن؛ الثمن الذي ينال جميع العاملين نصيبهم منه! وقل مثل ذلك وأكثر في دواوين الضرائب والصحة والتموين والكهرباء.. إلخ. ولو أردت تأليف كتاب عن مشاهداتي الشخصية في هذه الدوائر؛ لتجاوز الألف صفحة، ولصودِر بتُهمة "تهديد السلم الاجتماعي"!
الشاهد أن مثل هذا القدر من التعفُّن والتقيُّح ليس صادرا عن "عجز المنظومة الإدارية" للدولة؛ فهذا عرض وليس هو حقيقة المرض، فهذا العفن صادر عن نفس ما يُسمى بـ"الإنسان المصري"؛ الذي تم إفساده بصورة منهجيَّة حتى انقلب هرم قيمه كليّا، وصار الفساد في روعه صلاحا والصلاح فسادا، رغم كثرة الدعاة والمشايخ والعلماء وريادة بلد الأزهر والوسطية والسلفية إلخ، وسائر التُرَّهات عن الشعب المتدين بطبعه!! مثل هذا التعفُّن العميق لا يمكن أن تتعامل معه السياسة من أعلى، بل من المستحيل أن تتعامل معه إلا إذا قَبِلته ابتداء وتماهت معه وصارت جزءا منه. وهذا هو المثير للتعجُّب في شبق الإسلاميين السياسي، رغم فشلهم الذريع في التربية والعمل الدعوي طوال نصف قرن. بل الأكثر إثارة للدهشة هو إقبالهم على السياسة رغم أن أكثرهم ممن يعيش هذا الفساد يوما بيوم، ويشارك في تنميته ويعرف تفاصيله ومدى تغلغُلُه واستحالة اجتثاثه من أعلى؛ بعد أن صار المجتمع كله شريكا فيه ومتواطئا عليه، إما بالسكوت أو بالمشاركة الفعالة.
بل ما زال أكثر إمعات الإسلاميين يؤمنون بأن سلطة دولتهم قادرة على "قمع" الفساد و"إصلاح" المجتمع من أعلى؛ إذا "تعلَّمت" فقط كيف تفعل ذلك! فالمعضلة عند هؤلاء هي أن يتعلَّم الإسلاميون "القمع" أو الإكراه البراني على طريقة الدولة الحديثة؛ حتى يُمكنهم القضاء على الفساد متى وصلوا للسلطة. لكن مع هيمنة الفساد على كل شيء، فلا يمكن للسلطة القضاء عليه دون القضاء على شعب بأكمله يرتزق من ورائه!
لكن ليست الكارثة في التأول الأحمق بوجوب السعي للسلطة، بقدر ما هي في سوء فهم الإسلاميين لمعنى السلطة ومرادها وهدفها في الإسلام (ناهيك عن جهلهم التام بطبيعتها في السياق الحديث، وطبيعة دولاب الدولة ما بعد الكولونيالية)، وهو عكس مثيله في السياسة الغربية على طول الخط، فإذا كانت وظيفة السلطة في المنظور الغربي هي "حسن" إدارة الواقع المادي، فإن السلطة المسلمة هدفها المساهمة في ترقية الواقع ماديّا وروحيّا؛ ليس بالطنين الأيديولوجي السخيف، ولا بالإكراه العنيف ولكن بالقدوة الحسنة أولا ثم بالحدود الشرعية ثانيا. ورضي الله عن أمير المؤمنين الشهيد، ذي النورين عثمان بن عفان؛ الذي لم يكن يعرف حين قال "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، لم يكن يعرف أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستنحدر إلى دركٍ لا يستشعر عنده أبناؤها في القرآن وازعا، ولا يمنعهم عن المعاصي شيء إلا "قمع" السلطان العنيف، بل ولم يكن يعرف أن هذا الخلف لن يُفرق بين الوازع والقمع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
إن أي تغيير ينتظر وقوعه في مثل هذا المجتمع المنخور يجب أن يبدأ تربويّا، وبصورة راديكالية عميقة تعزِل النشء شعوريّا عن الفساد المتأصل اجتماعيّا ونفسيّا، للحد من حجم مؤثراته التي تنتقِل من الآباء إلى الأبناء. وهذا يقتضي وعيا متوهِّجا من الآباء، ويقضي عليهم بأن يحيوا حياة مزدوجة.
إن كل مصري بحاجة لإعادة تربية نفسه - لتربية مجتمعه - قبل الحلم بتغيير يستعيد له إنسانيته. لكن كيف يتم ذلك أصلا ونحن ندفع الرشى في كل خطوة، ونشارك مشاركة جمعيَّة فعالة في الفساد، ونسهم من ثم في زيادة التقيُّح، مُستعينين غالبا بفتاوى تبيح لنا ذلك الإفساد درءا لمفاسد أكبر هي ضياع الحقوق؟! هل يمكن أن نصلح نفسا ومجتمعا إذا كنا أدوات إفسادهما؟! إنه سؤال وجودي تحتاج إجابته إلى صدق وإخلاص مع الله.