يطرح بعض معارضي الرئيس التركي أردوغان من العرب تساؤلا استنكاريا هو: "لماذا يحبون أردوغان؟"، ويستبطن السؤال المطروح من خصوم الإسلاميين عادة أن الفاعل لفعل "يحبون" هم الإسلاميون، وهو افتراض نعتقد أنه غير صحيح، وأنه مجرد مظهر من مظاهر الاستقطاب الذي يقسّم المنطقة كما لم يحدث في تاريخها من قبل.
ولعل من المفارقة أن وسائل إعلامية غربية تمارس خطابا "استشراقيا" استعلائيا في العادة تطرح السؤال نفسه لكتاب غربيين وعرب "ليبراليين جدا!" على حد سواء، وتعطي في الغالب إجابات استشراقية من قبيل أن الإسلاميين ومؤيديهم "يحبون" أردوغان لأنه يقدم خطابا شعبويا؛ في قراءة استعلائية تنفي إمكانية "التحليل" العقلاني من قبل "الآخر" العربي أو الإسلامي الموصوم بتهمة "الشعبوية"، مع عدم نفينا لوجود "جاذبية" للخطاب الشعبوي في كل أنحاء العالم، بما في ذلك لدى الشعوب الغربية في الديمقراطيات الناجزة.
وفي محاولة للإجابة على سؤال "لماذا يحبون أردوغان؟" فإن أفضل مقاربة لهذه المحاولة هي الإجابة على سؤال مضاد هو "لماذا يكرهون أردوغان؟"؛ لأن الإجابة برأيي "غير الشعبوي" متشابهة على السؤالين المتناقضين، إذا علمنا أن المقصود بسؤال "يكرهون" هم الحكومات وغالبية النخب الغربية التي لا ترى في الشرق سوى مادة للبحث عن استثناءات "هذا الشرق غريب الأطوار"!
ولأن الحديث عن أردوغان في هذا المقال، فإن الأمر يتطلب استدراكات كثيرة في ظل حالة الاستقطاب حول الرجل، ولكنني سأكتفي باستدراكين: الأول هو أن كلمة "يكرهون" وضعت بين مزدوجين لأنها ليست الكلمة المفترضة في نقاش سياسات أي رئيس أو سياسي، فالأصل أن نقاش السياسات لا يعرف الحب أو الكراهية للشخص، وأن الناس يكونون إما مؤيدين أو معارضين لجزء من سياساته، ولكن العنوان استخدم الكلمة لأنها النقيض للسؤال "لماذا يحبون أردوغان؟". أما الاستدراك الثاني فهو أن المقال ليس الهدف منه أن يكون قصيدة مدح أو ذم في أردوغان، بل الهدف هو الإجابة على زاوية محددة جدا تم توضيحها سابقا.
وبالعودة للموضوع بعد المقدمة "الطللية"! الطويلة، فإن الأسابيع الماضية تعطي جوابا شافيا على السؤال المطروح في العنوان:
-إنهم "يكرهون" أردوغان لأنه يتعامل مع الغرب ومع الدول الكبرى باعتباره قائدا لدولة كبيرة، دولة إقليمية ذات قدرات ونفوذ و"كرامة" بدلا من التعامل بتبعية ومهانة، ويبدو هذا واضحا من خلال رد تركيا على العقوبات الأمريكية على وزيرين تركيين بفرض عقوبات مماثلة على وزيرين أمريكيين، وكذلك بقرار أنقرة رفع التعرفة على واردات أمريكية ردا على إجراءات أمريكية مماثلة. في مثل هذه الحالات فإن السياسي الأمريكي، والإعلامي الأمريكي- عموما- يفترض أن على تركيا الرضوخ والبحث عن إرضاء القوة الأمريكية العظمى، ولكن أردوغان "يخيب " أملهم باتخاذ إجراءات فيها نوع من التحدي الذي لم يعتادوا عليه في ديناميات التعامل مع الدول "الصغيرة"، وخصوصا في الشرق الأوسط.
-إنهم يكرهون أردوغان لأنه بالرغم من تحديه لقراراتهم، إلا أنه يعرف حدود هذا التحدي، ويعرف حدود قوة بلاده في ظل فلسفة العالم الجديد بعد تشكيل "الدولة الوطنية"، وبالتالي فإنه ينفذ سياسة "عقلانية" لا تمنحهم القدرة على تصنيف تركيا دولة "مارقة" يسهل نبذها وحصارها دوليا، كما حدث مع إيران وكوريا الشمالية ومع العراق إبان حكم صدام حسين. "تحب" الدول الكبرى أن تتعامل مع نوعين من الدول ذات السياسة "الواضحة"، تلك الدول التي يمكن توقع ردّات فعلها، وهي إما الدول الخانعة التابعة، وإما الدول المتمردة "غير العقلانية" التي يسهل تصنيفها دول "مارقة". أما ما يزعجهم بأردوغان، فهو أنه يمتلك قدرة على التمرد عندما تسنح الفرصة والحسابات السياسية، ولكنه يمتلك القدرة على التراجع أيضا عندما يدرك أن حدود قوة دولته لا تؤهله للاستمرار. فهو يرد على العقوبات الأمريكية باتخاذ إجراءات بالمثل، وفي الوقت نفسه يفتح الباب للسياسة بإرسال وفود لواشنطن لبحث حلول سياسية دبلوماسية، بينما "يحب" الغرب أن يتعامل مع قادة خانعين أو "غير عقلانيين"، وهو ما لا ينطبق على أردوغان.
-إنهم "يكرهون" أردوغان لأنه حاكم "قوي" يملك كل خيوط اللعبة في بلاده، ويسيطر على القرار بكل مفاصله، ولكنه في الوقت نفسه ليس ديكتاتورا، لأنه يأتي بانتخابات نزيهة بنسبة تتجاوز 50% بقليل، وبمنافسة شديدة مع منافسيه، ولأنه يعمل وفق دستور مستفتى عليه شعبيا. بينما "يحب" الغرب أن يتعامل مع قادة غير منتخبين، ديكتاتورين حقيقيين، سواء كانوا "تابعين" أو "متمردين"، فإذا كان رئيس دولة العالم الثالث ديكتاتورا تابعا فبها ونعمت، أما إذا كان متمردا فمن السهل عزله ومحاربته وحصاره لأنه "غير ديمقراطي" وديكتاتور وإلى آخره من التهم الجاهزة.
-إنهم "يكرهون" أردوغان لأن "تحديه" لقراراتهم ومقاومته لإجراءاتهم تنطلق من حسابات سياسية تدرك قوة بلاده، فهو يدرك أهمية بلاده لأوروبا فيما يتعلق بالحدود والهجرة ومكافحة الإرهاب، ويدرك أهمية بلاده في العالم بسبب قوتها الاقتصادية وعضويتها لمجموعة العشرين، بينما "يحب" الغرب أن يكون من "يتحداهم" ضعيفا يسهل سحقه والقضاء عليه.
قد تكون مؤيدا لسياسات أردوغان أو معارضا لها، مؤيدا لبعضها ومعارضا لبعضها الآخر، لكن تحليلك العلمي غير المبني على الأحكام المسبقة وعلى موقفك من الاستقطاب الذي يقسم المنطقة، سيقودك بالتأكيد إلى أن هذا الرجل ليس حاكما تقليديا ممن "يحب" الغرب التعامل معه. لذلك فإنهم "يكرهونه"، ولهذا بالضبط فإن كثيرا من العرب "يحبونه"!
العامل "الإسرائيلي" في العلاقات التركية - الأمريكية المتوترة