يظن البعض أن طريق التغيير حين يبدأ يكون واضحا من بدايته إلى منتهاه.. والحقيقة أن التغيير يفرض نفسه، فهو يبدأ حين يصبح ضرورة لازمة، وحين تتعقد الأوضاع، وتصعب الحياة على السواد الأعظم من الناس.
والتغيير حين يبدأ في أي مجتمع من المجتمعات يكون هدفه أن تتحسن الأوضاع المعيشية، وأن تتقدم الأمة، وأن يتحقق العدل.
أما كيفية حدوث ذلك، والخطوات التدريجية التي تؤدي إلى تحقق هذه الغايات... فمن النادر أن تجد حركة من حركات التغيير قد بدأت وهي تعلم تلك الخطوات بشكل تفصيلي واضح.
كما أن حركة التغيير في أي أمة من الأمم تحقق انتصارات، وتبتلى بانكسارات، وهي خلال ذلك تتعلم من أخطائها، وتراقب جيرانها وأشباهها، وتسدد وتقارب حتى تصل إلى مبتغاها.
ومن الطبيعي جدا - بل من الضروري - أن تتوزع مهمة تحقيق أهداف التغيير على أكثر من جيل.. ولكل تجربته، ومن الخطأ أن يرفض جيل الاستفادة ممن سبقه، أو أن يفرض جيل رؤيته على من يليه.
* * *
لقد بدأت رحلة التغيير في
مصر والوطن العربي؛ بدأت بشكل طبيعي لأن الأنظمة العربية قد وصلت إلى ما بعد مرحلة الشيخوخة، إنها أنظمة ميتة، ولا يكاد يبقيها على قيد الحياة إلا عصا الأمن.
ولأن الأنظمة قد وصلت إلى هذا الحد، ولأنه لا توجد طريقة تعيد الأموات إلى الحياة، فسوف تستمر حركة التغيير في طريقها.
في عام 2011 انطلق الربيع العربي، وهو اليوم في مرحلة تعثر، ولكنه سوف يعود، فما هي نقطة البداية التي يمكن أن ينطلق منها تغيير سياسي سلمي رشيد؟
* * *
نقطة البداية لا بد فيها من معرفة أن التغيير عملية ليست سهلة، وأنها عملية مركبة معقدة، وبالتالي لن يستطيع أن يتحمل مسؤوليتها قائد، أو جماعة، أو حزب، بل هي في جميع الأحوال عمل جماعي، تقوم به نخب سياسية تمثل قاعدة عريضة من كل طبقات وتشكيلات المجتمع.
وبالتالي... لا يمكن أن تبدأ المرحلة الثانية من رحلة التغيير السياسي في مصر والوطن العربي إلا بأن يعلم الجميع أنه لا غنى عن الآخر.
وتفصيل ذلك أنه: لا تطالب الآخرين بالاعتذار؛ لأنك لن تعتذر!
ومن الملاحظ أن الجميع يطالب الجميع باعتذار، وإذا دققت ستجد الجميع يطالب الجميع بالاعتذار عن الأخطاء (أو الجرائم) نفسها.
فالليبراليون يطالبون الإسلاميين بالاعتذار عن تحالفهم مع العسكر، في الوقت الذي يطالب الإسلاميون الليبراليين بالاعتذار عن الشيء نفسه، وبإمكانك أن تمدّ الخيط إلى آخره في كافة الخطايا أو الجرائم، مثل بيع دماء الشهداء، والاستعانة بالخارج، والرغبة في الاستحواذ، وخرق قواعد الديمقراطية... الخ.
* * *
من يطالب بالاعتذار يظن أن ذلك هو الطريق لبناء الثقة، والحقيقة أن ذلك حقيقي، ولكنه حقيقي في علاقة المرء بزوجته وإخوته وأبنائه، وليس في بناء تحالفات سياسية عابرة للأيديولوجيات، لمواجهة انقلابات عسكرية وتحالفات دولية لا ترحم.
لا بد أن نفرق بين العلاقات الإنسانية الشخصية، وبين التحالفات السياسية الاجتماعية التي تقوم من أجل الصالح العام. ولأن كثيرين منا لا يفرقون بين الأمرين نجد أن من يطالب الاعتذار يطالب بعد ذلك بأشياء مثل المصارحة، والمكاشفة، والاعتراف.. الخ، وهي كلها كلمات غامضة – في إطار العمل السياسي – بل هي امتداد للتفكير في الشأن العام وكأننا نقوم بصلح بين رجل وزوجته !
* * *
إذا كان الجميع قد أخطأ فلا بد أن نعلم جيدا أن حذف أي مكوّن من مكونات الأمة مستحيل!
البعض يتحايل على هذا الحذف بتجميله، كأن يقول: (لا بد أن يعلن الإخوان المسلمون اعتزال العمل السياسي لمدة عشر سنوات"، وأظن أن ذلك - لو حدث - فلن يحل شيئا من المشكلات التي تعيق انطلاق الربيع.
والبعض يتحايل على الحذف بتضييق دائرة الوطنية، فترى من يقصر دائرة الوطنية على من انضم للثورة في يومها الأول، وينسى من انضم بعد ذلك!
وترى هناك من لا يذكر إلا
الثورة في أيامها الأخيرة (بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013)، وينسى ما قبل ذلك!
والحقيقة أن الوطن يتسع للجميع.
كما أنه لا بد أن نعلم أن هناك دوائر واسعة من داخل مؤسسات الدولة نفسها، ومن داخل القوات المسلحة سيكون لها دول - شئنا أم أبينا - في أي مرحلة انتقالية قادمة.
* * *
إن نقطة البداية هي أن يعترف الجميع بالجميع، وأن نتنازل عن مطالباتنا غير المنطقية التي لا معنى لها، وأن نعلم أن الوطن معنى كبير، وأن الوطنية ليست حكرا على أحد.
حين يحدث ذلك... سنتمكن من التعامل معا على قاعدة أننا إذا ربحنا سنربح جميعا (وبربحنا يربح الوطن)، وإذا خسرنا سنخسر جميعا (وبخسارتنا يخسر الوطن).
وحينها سنتمكن من معرفة معالم الطريق، وبعدها نتمكن من وضع برنامج واضح لخطوات التغيير، على أمل أن نقدم للأمة بديلا حقيقيا عن أنظمة الاستبداد الميتة التي لا تملك إلا الموت لتقدمه للوطن والمواطن.
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: arahman@arahman.net