القرعاء تتباهى بشعر أختها، نحن تباهينا بضفائر كرواتيا مع أنها
سلافية مثل روسيا.
لمشاهدة
مباريات
كرة القدم جماعة متعة روحية. الكرة وثن جديد، مشاهدتها هي عبادة عصر
الحداثة والإستاد هو المعبد. الحكومات الغربية تنصب شاشات عملاقة لمشاهدتها في
ساحات المدن، لتعزيز دين التواصل الكروي والروح الوطنية، بينما حكوماتنا لا تنصب
سوى المشانق، وبرنامج "ديليت" لروح الشعب، فهي تذعر من كل دين. الكرة
"كعبة" مدورة غير ثابتة المكان، ولهذا تتصارع الدول وتتنافس بشدة على
استضافة حج
المونديال، بمن فيهم ملوك عرب تنطّعوا لها، وهم عاجزون عن إرواء
عطش شعوبهم، و"المال" فوق ظهورهم محمول.
صار
صديقي نوري الشاب يزورني في مواعيد مباريات
كأس العالم لنشاهدها معا.. أمس اتفقنا
سويا، واجتمعنا على قلب امرأة واحدة هي رئيسة كرواتيا. للمرة الأولى شجعنا معا
فريق كرواتيا ضد فريق روسيا الاستعمارية الكولونيالية؛ التي نافست -وما تزال-
أمريكا في إبادة الشعوب. كنا سنتجرع السم من كأس العالم لو حازه قيصر روسيا
وسوريا، على أرضه وبين جمهوره.. الحمد لله على هذه الوحدة الفيدرالية الطارئة بيني
وبين نوري.
قال
نوري: لم أكن أعرف أنك تحب كرة القدم خال. لو كنت أعرف لشاهدت كل المباريات معك.
قلت:
كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى في دول العالم الثلاث: الأول والثاني والثالث،
لكنها لعبة ملكية في بلاد العرب، كرة القدم ثمينة السعر، في بلاد جائعة، تئن فيها
الرياح، وضاع فيها المجداف والملاح.
عندما
كنا طلابا، كان مدير المدرسة يحافظ على الكرة كأنها وثن، خوفا عليها من رفساتنا..
هي للزينة، وغالبا لم يكن في المدرسة كلها كرة. الفريق الوطني هو فريق الرئيس أو
الملك.. إن أحرز الفريق الفوز على فريق ضيف، يحمل الكابتن صورة الرئيس، ويطوف بها
في الملعب. لدينا فرق تجتهد في المواسم وأعياد الكرة، ولهذا نحب الكرة من طرف
واحد، كما كنا نعشق البنات في أيام الصبا.
نوري:
تبدو غاضبا ومتعصبا يا خال.
قلت:
لست متعصبا يا سبعي، أنا كروي المزاج، مستقيم الطوية، وأحيانا متشابه الأضلاع. ولا
أخفيك أني أطالب بتطبيق حكم الشريعة الكروية في الحياة كما في الملعب، يعني أن
يكون ملعب السياسة شفافا ومرئيا وواضحا مثل ملعب كرة القدم، والسلطات الثلاث
مستقلة، سلطة الحكم القضائية، وسلطة اللاعبين التنفيذية، وسلطة الجماهير
التشريعية، لا سلطة واحدة هي سلطة المخابرات والقدر.
أنا
لا أشاهد سوى مباريات مختارة من كأس العالم، ليس لنا صوت في السياسة، ولا صوت في
الكرة؛ لذلك نحن نشجع فرق البلاد الأخرى.
قال
يعزّي نفسه: سمعت أنّ حكاما من ديوكنا شاركوا في التحكيم في مونديال بوتين!
قلت:
سمعت أنهم خمسة ديوك، قد نحكّم لهم مباريات كروية، لكن العالم الأول يحكّم
نزاعاتنا السياسية والحربية والاقتصادية، وقد نفشت في ملاعبنا ذئاب القوم.. حكم
المباراة مثل الكومبارس في المسرحية، وشرطي المرور في الشارع، لا أحد يهتم
بالحَكَم سوى في المقالات الرياضية المختصة، لذلك لا تعزّي نفسك كثيرا أيها الفتى.
قال:
أسمعت بحكم كردي في مونديال بوتين؟
قلت:
ولا حتى حكم تماس، أو حكم مساعد على الفيديو، الكرد لم يبلغوا بعد هذه المرحلة يا
سبعي المصدف بالسلاسل، ما زالوا في مرحلة اللعب بالحجارة والكعاب.
قال:
للأسف، ما عرفت أن حارس مرمى إيران كردي إلا بعد خروج إيران.
قلت:
لا أستطيع أن أشجع إيران، هي دولة احتلال مثل روسيا يا سبعي.
سأل:
كيف تختار فريقك يا خال في مباريات كأس العالم، طرّة ونقش مثلي، أم حسب جمال
مشجعاته؟
قلت:
ميزان العواطف الكروية عندي لا علاقة له بالكرة، أختار الفريق بميزان الاستكبار
والاستضعاف، بميزان السياسة غالبا، لذلك شجعت الفرق الأفريقية كلها، ولا يمكنني أن
أصفق للفريق البلجيكي أبدا. بلجيكا واحدة من أكثر الدول التي ارتكبت الفظائع في
التاريخ.
كانت
قد شاعت إشاعة في بعض قرى التواصل الاجتماعي العشوائية، تقول: إن الكروات أكراد،
بدليل التشابه اللفظي بين نطق لفظ الكروات والأكراد، ورأى بعضهم أن الحارس
الكرواتي مسلم من أصول ألبانية بسبب اسمه، لولا أن الرجل يرسم إشارة الصليب على
صدره.
ليس
لنا في العير ولا النفير، لذلك فرحنا بخروج روسيا من المونديال، وسيأتي اليوم الذي
تخرج فيه من سوريا.
رأينا
صورة رئيسة كرواتيا الحسناء، كليندا غرابار كيتاروفيتش، في المدرجات، وهي تلبس زيّ
فريقها الوطني الرياضي، فقال نوري: يا عيني على الفراولة، بالناموس هي
"قطعة" خال، أهي ملكة جمال أم رئيسة دولة؟
قلت:
هي حسناء، ورئيسةٌ منتخبة، سافرتْ إلى روسيا بالدرجة الشعبية في الطائرة، على
حسابها، وليس مثل فناني مصر الذين شاهدوا المباريات على حساب الشعب سفرا وسكنا..
وهي حاصلة على البكالوريوس في الآداب بالإسبانية والإنكليزية، وتجيد سبع لغات.
هناك ملوك عرب لا يجيدون الكلام بالعربية. ثمة ملك عربي مسؤول عن مقدسات العالم
الإسلامي كلها، ولا يجيد نطق كلمة التشهد بشكل صحيح. تصور يا نوري أن كرواتيا التي
لا يجاوز عدد سكانها أكثر بقليل من أربعة ملايين، غلبت روسيا النووية التي يجاوز
عدد سكانها 145 مليون. الكرة غدارة كما يقولون.
قال:
خال هل نرى رئيسا عربيا يلبس لباس فريقه الرياضي تشجيعا له مثل رئيسة كرواتيا؟
فتخيلت
ملوكا عربا في أرذل العمر يلبسون الزي الرياضي، قلت: هناك رؤساء عرب لا يستطيعون
حضور مباراة كاملة، يلزمهم "بيبي سيتر" لتغيير الحفاظة، وأخشى أن يشجعوا
الفريق الخصم، إما بضعف النظر، وإما بالكرم الحاتمي.
نوري:
ملوك كرماء يكرّمون الأعداء ويذلّون الأهل والأشقاء.
قلت:
عندنا ملكان عربيان عندهما زهايمر، والباقون صحتهم جيدة، ونظرهم ممتاز، سيبيعون
الفريق في سوق النخاسة الرياضية. رؤساؤنا يبيعون البلاد، ومصائر العباد لخمسين سنة
قادمة، أفلا يبيعون عشرة أشخاص، ثمن الواحد منهم طلقة روسية، أو قرار عرفي من
القضاء "والقدر".
تحسّر
نوري وقال: هل يمكن أن نتأهل يوما لدور ربع النهائي؟
قلت:
يمكن أن نتطور ونتقدم بسرعة في السياسة والاقتصاد، ويمكن أن نسبق ماليزيا وتركيا
في النمو.. العجلة لا تحتاج إلى اختراع، شرط ذلك هو الحرية.. عشرة علماء يمكن أن
يطورا بلدا إذا أخلص القادة والساسة، أما كرة القدم فشأن آخر، لا بد أن يلعب الشعب
كله بكرة القدم حتى تتطور وتمضي قدما.
اعترض
نوري: ولكن عندنا فرق رياضية في كل بلد، مثل الجهاد والفتوة والجيش..
فتذكرت
أني سافرت مرة مع فريق من فرق الدرجة الأولى، وحضرت مباراة له، ورأيت أعضاء الفريق
كيف يأكلون اللحم أكلا لمّا.. قلت هذا أكل جوعانين، وليس أكل لاعبين، كأنما خرجوا
من مجاعة.. اللاعب لا يسمح له مدربه بالأكل إلا بمقدار، وفازوا على الفريق المضيف،
ربما لأن الفريق المضيف كان قد أكل أكثر.
كرر
نوري: كيف يمكن أن نرتقي رياضيا.
قلت:
لو يقول رئيس لشعبه مثل ما قال مالك بن قراد لعنترة بن شداد، لو يقول الرئيس
للأمّة: العبي بالكرة وأنت حرة.
الشعب
يريد أن يلعب.