ظهرت في الفترات الأخيرة موجات من محاولات تثبيط كبيرة للجماهير، سواء بشكل مباشر بأقوال حول فارق القوة الكبير بين الشعب والطبقة الحاكمة؛ أو بشكل غير مباشر باختفاء مسارات الدفع باتجاه الفعل الثوري وزيادة مصطلح المعارضة في المجال العام. هذه الأمور، كما أنها ترفع من مستوى اليأس لدى الجماهير من احتمالات التغيير، فهي أيضا تزيد من ابتعاد الكيانات والمجموعات القادرة على الحديث الإعلامي عن الجماهير، وتذيب من فكرة
الثورة، أو على الأقل القدرة على التغيير المحدود، وتدعو إلى الاستسلام للواقع المؤلم.
ويبقي ما حدث في القترة من 14 إلى 16 آب/ أغسطس حالة عملية تنفي غياب قدرة الجماهير
المصرية على الفعل، ونحتاج في البداية إلى توضيح أسباب أهمية تلك الفترة ورمزيتها الكبيرة في مسار العمل المقاوم في مصر:
1- كانت الجماهير صاحبة اليد العليا في الشارع، واستطاعت السيطرة على مناطق واسعة مع الفرق الهائل في القوة.
2- بالرغم من القتل الانتقامي، والهادف إلى إحداث حالة من الصدمة والفزع لدى الجماهير؛ إلا أنها لم تتراجع أمام حمامات الدم في مساحات واسعة في مصر.
3- أكدت عدم قدرة أي نظام أمني أو عسكري على الصمود أمام إصرار جماهيري وطوفان شعبي يدرك ما يجب فعله.
هذه النقاط يجب أن تحتفظ بها الجماهير في ذهنها حتى لا يخدعها أحد بترويج عدم قدرتها على الفعل الثوري، ولتدرك أنها قادرة دائما على الفعل حتى لو حاول البعض ترويج عكس ذلك.
وقد نجحت الجماهير في هذا اليوم ولم تنجح القوى الثورية في الاستفادة من الموقف على الأرض، وهذا يرجع لعدة أسباب، منها ما هو إجرائي ومنها ما هو مبدئي وفكري. ونحاول توضيح هذه الأسباب حتى يمكن تلافيها في الموجات الثورية القادمة لا محالة، وأهمها ما يلي:
الأسباب الفكرية
1- الخوف من الدخول في مجال حرب أهلية كالدول الأخرى المجاورة سوريا وليبيا والعراق واليمن؛ العفريت الجاهز دائما.
الحقيقة أنه في هذه اللحظات وما تلاها حتى الآن؛ مصر تعيش حربا أهلية مصغرة. فهناك جانبان: مؤسسة الجيش وقطاع واسع من الشعب. ترتفع وتيرة المواجهة يوما بعد يوم، ويسقط ضحايا من الطرفين بالتعبير الأكاديمي، وبالتالي فنحن فعلا نعيش حالة من الحرب الأهلية. كما أن هناك بعض الأفكار أن توسيع مجال المواجهة الشعبية في نطاق جغرافي أوسع؛ يزيد من احتمال النصر وليس الهزيمة. وهناك نقطة أخرى أن ما يسمى الجيش المصري قام بمساندة كل دوائر الاستبداد في المنطقة، وربما غيابه كان أفضل، وخاصة لسوريا وليبيا.
2- الخوف من تفكك مؤسسات الدولة، وبالتالي انهيارها.
يوجد رابط تعسفي يحتاج إلى المراجعة بين التعريف الصحيح للدولة، وهي الشعب والأرض والسيادة والمؤسسات، من ناحية؛ وبين المؤسسات كممثلة وحيدة للدولة وكأن أصحاب هذا الطرح لا يرون الشعب ويرون فقط المؤسسات كمالكة حصرية للسيادة والأرض، وهذا خطأ كبير، وبالتالي الخوف المرضي من هذا الاحتمال هو مانع دائم ومزمن لأي فعل ثوري، ويجعل المريض به يتحول إلى مدافع عن الاستبداد دون أن يشعر، حتى لو كان يتفوه بأكثر العبارات ثورية، وخاصة إذا كانت تلك المؤسسات هي وسيلة تدمير وسرقة وليست وسيلة بناء وحماية.
الأسباب الإجرائية
1- عدم وجود تصور واضح لإدارة القوى على الأرض بعد سيطرتها، وهذا ناتج من عدم وضوح طبيعة المعركة. فلو كانت القيادة مؤمنة في تلك الفترة بفكرة الثورة الشاملة الحقيقية لتحركت في مسار مختلف، وبنت على انتصار 16 آب/ أغسطس. وكان يجب عليها أن تتأكد من أنه مهما كان حجم الخسائر في تلك المواجهة، فهي أقل بكثير مما نتج وسينتج لاحقا، وكان مشهد مسجد الفتح في اليوم التالي مباشرة هو نتيجة للتراجع، وكان مشهدا كاشفا حاسما.
2- الخوف من تطور الثورة وخروجها عن السيطرة، وهذه إحدى آفات الطبقة البرجوازية التي في الغالب تكون على رأس العمل الثوري. وقد تكرر ذلك في معظم الثورات الكبرى، فدائما ما تحاول كبح جماح الثورة في لحظة معينة لخشيتها من تطور الثورة إلى المستوى الذي يشكل خطرا على مصالحها ووجودها.
إذن، فالخطأ المركزي لم يكن من الجماهير، وبالتالي لا يجب تحميل الجماهير أسباب التراجع بعد هذا اليوم الملحمي. ومن الضروري أن يبقى هذا الانتصار المبهر هو النموذج الذي يجب أن تسعى الجماهير إليه، ويجب أن تتجاوز كل المحاولات التي تدفع لليأس، فهذه المحاولات ربما تكون محاولة من مروجيها لدفع الجماهير لمسار آخر.
على أي حال، من الضروري أن تدرك القوى الشعبية هذه النقاط وتبحث عن الوسائل والإجراءات اللازمة لإعادة بناء نموذج 16 آب/ أغسطس، ولكن بتجاوز العقبات التي أدت إلى التراجع في ذلك اليوم، وبالتأكيد يبقى 28 كانون الثاني/ يناير الخطوة الأولى على هذا المسار، إلا أنه كان محدودا جغرافيا مقارنة بـ16 آب/ أغسطس. حتى تكون الموجة التالية أكثر نجاحا؛ يجب تجاوز الأخطاء التي حدثت في 16 أغسطس، والخطوة الأولى الآن هو أن تثق القوى الشعبية في نفسها وهي القوى التي لا تظهر على التلفاز لتصنع الوعي العام الصحيح أو الزائف، وتقوم بتنظيم نفسها على هذا النموذج متجاوزة الأخطاء الحادثة سابقا.
إن النظام في مصر يبدو متماسكا، ويستخدم البطش الشديد لحماية نفسه من انكشاف ضعفه البنيوي. ويحتاج الشارع إلى البناء القوى المتماسك غير المرئي، حتى يمكنه في لحظة معينة أن يخرج في المواجهة الحاسمة، ويتمكن من صناعة قياداته التي تستطيع في اللحظات الفارقة اتخاذ القرار الصحيح.