أعلن وزير المالية المصري، عمرو الجارحي، عن برنامج الطروحات
الحكومية، الذي تتضمن مرحلته الأولى طرح نسب من حصص الحكومة في 23 شركة، منها 14
شركة ستقيد للمرة الأولى بالبورصة وشركات ستقوم الحكومة المصرية بزيادة نسبتها
المطروحة من الأسهم المملوكة لها في الشركات، وذلك من خلال بورصة الأوراق المالية
أو عن طريق زيادة رؤوس أموال تلك الشركات.
وتتراوح الحصص المطروحة ما بين 15 و30 في المئة من رأسمال الشركة،
إلا إذا كانت حصة المال العام تقل عن ذلك. ومن المستهدف أن يتم تنفيذ البرنامج
خلال فترة تتراوح ما بين 24 و30 شهرا، كما أنه من المتوقع أن تصل القيمة الإجمالية
للأسهم المطروحة إلى حوالي80 مليار جنيه، وأن تصل القيمة السوقية للشركات المطروحة
إلى حوالي 430 مليار جنيه. وسوف تجري أول الطروحات الحكومية ضمن البرنامج خلال
شهرين إلى ثلاثة أشهر.
والواقع
أن الخصخصة في حد ذاتها ليست شرا، ولكن الشر في آليات تنفيذها، لا سيما في التجربة
المصرية التي كانت مرتعا للفساد في التسعينيات من القرن الماضي حتى قيام ثورة
يناير 2011م. وهو الأمر الذي يعود بالذاكرة لتلك الفترة السوداء من تاريخ مصر التي
تم فيها التفريط في أصول مصر بأبخس الأثمان. فعلى سبيل المثال، بيعت شركة عمر
أفندي بـ650 مليون جنيه، في حين كانت قيمتها السوقية خمسة مليارات جنيه، أي بيعت
بأقل من 15 في المئة من قيمتها. كما بيعت شركة إيديال بمبلغ 325 مليون جنيها، في
حين كانت قيمتها السوقية خمسة مليارات جنيه. وبيعت شركة أسمنت أسيوط بـ2.2 مليار
جنيه لمستثمر مصري؛ باعها بعد ستة شهور لشركة فرنسية بمبلغ 78 مليار جنيه، فضلا عن
الفساد الفاحش في بيع شركة المراجل البخارية، والحديد والصلب وغيرهما، ليصل عدد
الشركات المباعة في عهد مبارك إلى 413 شركة، بحصيلة نحو 57 مليار جنيه، توجه جلها
لسداد ديون تلك الشركات، فضلا عن سداد جزء من عجز الموازنة، ومتطلبات المعاش
المبكر للعاملين الذين تم تسريحهم من أجل الخصخصة.
إن
التوجه للخصخصة يحكمه أهداف منها تحقيق الكفاءة الاقتصادية اعتمادا على اقتصاد
السوق ودعم المنافسة، وتخفيف الأعباء المالية للدولة، وتوسيع قاعدة القطاع الخاص
باعتباره قاطرة التنمية، وتنشيط الأسواق المالية، وعلاج مشكلة البطالة بخلق فرص
عمل جديدة. ولكن التجربة المصرية غابت عنها تلك الأهداف سابقا وحاليا، فالحكومة
تنفذ برنامج الخصخصة معصوبة العينين؛ تنفيذا لتعليمات صندوق النقد الدولي من أجل
قرض الـ12 مليار دولار الذي حل معه الخراب الاقتصادي لمصر.
فالخصخصة لن تجلب
اقتصاد السوق، ولن توسع دور القطاع الخاص في ظل سيطرة العسكر على الاقتصاد،
والأولى هو خصخصة مشروعات العسكر الاقتصادية لا مشروعات الدولة المتميزة والمنتجة
والرابحة. كما أن حصيلة الخصخصة في النهاية ستصب في سداد جزء من الدين العام الذي
يتنامى بسرعة غير مسبوقة، وستكون تلك الحصيلة نقطة في بحر الديون الذي لا مناص معه
من ضياع الأصول وزيادة الديون، وهو ما يهدر حق الأجيال الحالية والمستقبلية في
ملكية تلك الأصول، مع تحميلها من الديون ما لا طاقة لها به. أما تنشيط الأسواق
المالية، فهو تنشيط صوري ومشكوك فيه، في ظل التجربة السابقة للخصخصة واتجاه العديد
من الشركات لشطب أسهمها في البورصة وتصفية أصولها؛ من أجل بيع أراضي تلك الشركات
فقط بأضعاف الأثمان، كما أن التعويل على تخفيض الخصخصة للبطالة هو كلام يخالفه
واقع التجربة المصرية، فالعكس هو الصحيح، فسوف يتم تسريح العمالة المصرية مقابل
جنيهات للمعاش المبكر يأكلها التضخم أكلا ولا يبقى لصاحبها سوى البطالة والفاقة.
إن
المتتبع للشركات المطروحة للخصخصة ليصيبه الغثيان من تفريط النظام في أصول مصر،
فلم يكفه التفريط في تيران وصنافير والغاز المصري، فامتدت يداه للشركات الناجحة في
مجالات مربحة بصورة واضحة.. في مجالات قطاع خدمات البترول والتكرير، وقطاع
الكيماويات، وقطاع الخدمات اللوجستية، وقطاع الخدمات المالية، والقطاع العقاري،
والقطاع الصناعي، وخدمات المستهلك.
إن
المنطق يقول إن الأصل الرابح يجب العض عليه بالنواجذ، لا التفريط فيه وترقيع
الديون التي لا تنتهي بثمنه، ولكنها سياسة منطق القوة لا قوة المنطق، والبيع
والتفريط الذي لا حدود له، والذي سينتقل حتما لخصخصة الخدمات لصالح الكفلاء، لا
سيما التعليم والصحة. وأي خصخصة في مصر سيكتب لها تضييع الأصول وتدمير ما تبقى من
الاقتصاد، في ظل العسكرة وغياب الشفافية والإفصاح، فلا مناص حينئذ إلا سيادة
الفساد.
إنه
مما لا شك فيه أنه توجد تجارب ناجحة للخصخصة، لا سيما في بريطانيا وتركيا وغيرهما،
لكنها تجارب قامت على إرادة أصحابها، فرئيسة وزراء بريطانيا ورائدة الخصخصة في
الثمانينات من القرن الماضي (مارجريت تاتشر) لم تفرط في أصول بلادها، بل جعلت
للدولة سهما ذهبيا مؤثرا في المشروعات التي خصخصتها وتمس حياة المواطنين، كالسكك
الحديدية. كما أن تركيا بعد أن خضعت لشروط صندوق النقد الدولي في عهد رئيس الوزراء
(بولانت أجاويد)، مما دمر اقتصادها وحمّله بديون وتضخم وبطالة لا قبل لها بها، جاء
أردوغان فتعامل مع الصندوق وفق مصالح بلاده لا مصالح المحركين للصندوق، فانتقلت
بلاده تلك النقلة التوعية المذهلة في اقتصادها.
إن
أساليب الخصخصة ليست سواء، فمنها: عقود الإدارة، وعقود التأجير، وعقود الامتياز،
والبيع المباشر بالعطاءات أو المزاد العلني، أو لمستثمر أجنبي، أو من خلال بيع
الأسهم في الأسواق المالية، أو للعاملين والإدارة. فإذا كان لا بد من الخصخصة
فلماذا يركن النظام إلى البيع المباشر بصفة خاصة؟ والعجيب أن ذلك للشركات
الناجحة.. لماذا لا يلجأ لعقود الإدارة أو التأجير أو عقود الامتياز للشركات التي
تحتاج لإعادة هيكلة؟! بل لماذا لا يقتصر الخصخصة، إن كان وطنيا، على البيع المباشر
للمصريين والعاملين والإدارة؟! إن هذا السلوك يحمل معه العديد من علامات الاستفهام
التي تعكسها طبيعة المرحلة التي عنوانها: بيع يا سيسي.