يتداول
الفلسطينيون، خاصة النشطاء منهم والمهتمين بالشأن العام، عددا من الأسماء التي ظهرت في السنوات الأخيرة، على الأقل منذ تشرين أول/ أكتوبر 2015، أيّ منذ فاتحة "هبّة القدس". تلك الأسماء يجري تداولها بصفتها رموزا للفلسطينيين، وهذه الرموز يجمعها سرعة الظهور والرحيل، أو تُعرف لحظة الرحيل، أو إنجاز عمل مقاوم ما، بكلمة أخرى يجمعها سرعة الترميز.
اتسعت الأرض التي تقف عليها تلك الرموز، في القدس والضفة الغربية وغزة وفلسطين المحتلة عام 48 وخارج فلسطين، وكان منها على سبيل المثال مهند الحلبي، محمد الفقيه، نشأت ملحم، باسل الأعرج، مازن فقها، التونسي محمد الزواري، أحمد نصر جرار، أحمد العبد (لم يُستشهد)، وغيرهم.
وبالنظر إلى هذه العينة من رموز الفلسطينيين، لا نلاحظ فحسب تنوع المناطق الجغرافية، وإنما كذلك تداخل التنظيمي بالفردي، وتلاحم المناطق الجغرافية بالاجتماع على هدف واحد، فبينما اغتيل مازن فقها، الأسير المحرر والمبعد إلى غزة، وصاحب التجربة الجهادية العريضة، والمتهم بالمسؤولية عن إدارة جانب من العمل المقاوم بالضفة، فقد استشهد المطارد باسل الأعرج الذي كان يحاول البناء على الظاهرة الفردية في "هبّة القدس"، وتعويض الضعف التنظيمي في الضفة الغربية.
لن أقف عند تلك الأسماء كلّها، لكن الشاهد أن التناقضات انتفت تماما بين هذه النماذج، أو بين هذه الرموز، لا يصطف الفردي في مواجهة التنظيمي، وتجمع فلسطين العربي إلى الفلسطيني، كما تجمع القدس، والمسجد الأقصى، الفلسطينيين كلهم.. هذه الحالة مكثّفة الرمزية، تصلح نموذجا أعلى لبناء مشروع أكبر عليه، مشروع تحرري فلسطيني وعربي، بمعنى أن الأفراد الذين يبزغون سريعا، ويحظون برمزية عالية سريعا، يُقدّمون إجابات لما هو أكبر، ربما من دوافعهم الخاصة، أو المحلية، أو الموضعية.
ثمّة شاهد آخر هنا، وهو قدرة الفلسطينيين على تقديم مثل هذه الرموز، رغم الظروف التي تبدو مستحيلة في الضفّة الغربية. أوضاع الضفة الغربية، وما طرأ على مجتمعها، وأنماط
المقاومة فيها، لها حديث آخر، بيد أن المحاولات المستمرة، والتي لم تزل تقدم الرموز منذ ثلاث سنوات ونصف، تشير إلى مخزون الشعب النضالي، وسرعة التحول، وسرعة التكيف، وهو ما تدلّ عليه أيضا سرعة الترميز.
لكن ما يمكن قوله فيما نحن بصدده، إن الظروف الخاصة في الضفة الغربية، تدفع نحو سرعة الترميز. فلو قارنا بين أبطال هذه المرحلة وبين أبطال انتفاضة الأقصى، سوف نجد أن العديد من الفاعلين في انتفاضة الأقصى لم يحظوا بترميز يكافئ أعمالهم الضخمة، كما أنّ كثيرا من أعمال مرحلة انتفاضة الأقصى لم تنل القدر الكافي من التوثيق والبحث والدراسة، وذلك للكثافة الهائلة والهادرة في الوقت نفسه لأعمال تلك المرحلة، وما تزال مرحلة انتفاضة الأقصى أرضا بكرا، تستدعي الجهود الدراسية، للبحث في واحدة من أعظم ملاحم التاريخ، وحقبة من أكثر الحقب دلالة على نضال الفلسطينيين، وعلى أنّ مقاومتهم في الحقيقة، على كل ما تخللها من أخطاء صغيرة وكبيرة، لا ترقى إليها ولا أي مقاومة أو حركة تحررية، مما لم تزل تُتخذ مثلا.
باسل الأعرج، ولدت رمزيته في مرحلتنا هذه التي نعيش، مع أن خطه المقاوم قديم، وقد اشترك مع بقية رموز هذه المرحلة، بأنّهم نبتوا في أرض أخذت تتكاثر فيها معالم الجدب والقحط، وعَبّؤوا فراغات كانت آخذة بالتعاظم، والتزموا سؤال الواجب والمسؤولية، في وقت الإحجام، أو في وقت السؤال عن الجدوى.
إلا أن باسل تميّز بإضافتين أخريين، حتى وإن لم يُتح له الوقت لتنفيذ أعمال مقاومة، أو لإتمام مشروعه، فهو كان خارج التقليد التنظيمي، أي لم يكن منتميّا لفصيل فلسطيني، على الأقل في حركته الأخيرة، وهو ما كان سوف يسارع في ترميزه لدى النافرين من العمل التنظيمي، إلا أنّه امتاز بالمبادرة إلى العمل، أي لم يتخذ موقفا نقديّا عدوانيّا من فصائل المقاومة، أو وبكلمة أدق لم يكتف بالنقد والتنظير المجرد، وامتاز عن المبادرين إلى الفعل الفردي بمحاولة تطوير العمل الفردي وتنظيمه، حتى وإن اكتشفت جهوده سريعا، ومن ثم اعتقاله فمطاردته فشهادته.
الإضافة الأخرى لباسل، أنه عُرف في بعض الأوساط الثقافية، وبنى صداقات واسعة داخل هذه الأوساط وخارجها، لكن انشغاله الثقافي تعلق بواجب الوقت، أي بالموقف من الاستعمار ومقاومته، وهنا تأتي ميزته بسعيه الجدّي الذي عمّدته الشهادة، لتجاوز ما يمكن أن يخلقه الانشغال الثقافي من وصائية انعزالية ومدعاة، إلى انغماس مباشر في العمل، ليلتحق بالعديد من المثقفين الذين غبّروا أقلامهم بتراب المعارك.