لا تكاد تمر برهة من الزمن حتى تكشر الدولة العميقة عن أنيابها الأمنية عبر جريمة جديدة تنضاف إلى سجل الجرائم البشعة التي ارتكبتها في حق الأبرياء والمناضلين والرجال الأحرار في تونس منذ عقود. ففي مشهد مفجع اصطلح عليه في تونس "غزوة المحكمة" قامت النقابات البوليسية المسلحة بمحاصرة المحكمة بمنطقة "بن عروس" من محافظة تونس العاصمة مطالبة بالإفراج عن زملاء لهم مورطون في التعذيب بل قاموا بالاعتداء على المحامي المكلف بالدفاع عن المتضرر.
خلّف هذا المشهد موجات كبيرة من الاستنكار ومن التعبير عن الصدمة بسبب تحول دور القوات المسلحة غير العسكرية من حماية تطبيق القانون وحماية السلم الأهلي إلى مهدّد للعدالة المدنية وإلى خطر كبير على المجتمع وعلى مؤسسات الدولة.
المشهد كان صادما وهو يذكرنا بمشهد المليشيات المسلحة المنتشرة على طول الأرض العربي وعرضها حيث مشاهد السلاح والرؤوس المقطوعة والجثث المشوهة والجرائم المروعة التي ترتكبها هذه المليشيات الخارجة عن القانون في ليبيا وسوريا والعراق واليمن خاصة تملأ الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي.
ليست هذه الجرائم إلا نتيجة طبيعية لغياب الدولة وسقوط سلطة القانون وانهيار هيبة المؤسسات لأن سطوة السلاح المتمرد على سلطة القانون هي في الحقيقة سلطة الغابة وسلطة الإرهاب وسلطة فرق الموت.
تاريخ الدولة الأمنية في تونس تاريخ أسود حالك السواد حيث أسس الاستعمار نواتها الأولى من أعداء المقاومين ومن حلفاء الوكيل الاستعماري الأول "بورقيبة".
وقد تحددت مهمة النواة الصلبة لهذه القوات في تصفية خصوم "المجاهد الأكبر" من المقاومين و"الفلاقة" والمناضلين الوطنيين الصادقين وخاصة من جماعة صالح بن يوسف وغيرها من المجموعات الوطنية التي تكفلت الآلة البوليسية الجهنمية بالقضاء عليها.
وبلغت سطوة القبضة الأمنية في أواخر أيام الرئيس العجوز أوجها عندما تحولت تونس إلى معتقل كبير حيث طارد كل المعارضين وخاصة من الإسلاميين الذين بدأ في التنكيل بهم باكرا ومنذ أواخر السبعينات عبر ذراع "البوليس السياسي". أنشأ نظام بورقيبة الدولة الأمنية وأهمل الجيش الذي كان يزدريه ويحتقره في نرجسية عميقة وتكبر فاضح.
لكنّ مجيئ أول عسكري على رأس وزارة الداخلية كان كافيا للإطاحة بالرئيس العجوز حيث قام بن علي ابن المؤسسة العسكرية بانقلاب ناعم على الرجل المريض. عزز بن على القبضة الأمنية على المجتمع والدولة وقام بأبشع عمليات التصفية والتعذيب في حق الإسلاميين بوجه خاص منذ مطلع التسعينات وعرفت أقبية وزارة الداخلية أبشع عمليات التصفية والقتل والاغتصاب والتنكيل التي لا تزال تتردد في شهادات الضحايا عبر منبر "هيئة الحقيقة والكرامة".
خلال آخر أيام بن علي الرئيس الهارب عرفت الدولة الأمنية أزهى عصورها وأيامها بأن أصبح الأمن مرادفا للرعب الاجتماعي وكان الداخل إلى مراكز الإيقاف أشبه بمن يطل على الجحيم.
لكن فجر 17 من آخر أشهر سنة 2010 كان موعدا فاصلا مع انهيار دولة الدم والسياط فكانت ثورة الحرية والكرامة ثورة ضد دولة البوليس التي تربع على عرشها الرئيس الهارب قرابة ربع قرن من زمان ونكل بقبضته الأمنية بكل الأحرار والحرائر وحوّل تونس سجنا كبيرا لا يطاق. انهارت دولة البوليس وزادت جرائم القناصة في تأجيج المشاعر الشعبية ضد السلاح وحملة السلاح إلا من ذاكرة عطرة للجيش التونسي الذي رفض أن يخوض في دماء الشعب رغم كل أوامر بن علي.
إثر الثورة مباشرة تبخرت الدولة الأمنية وتراجع السلوك العدواني للبوليس بفعل الزخم الثوري الكبير وخوفا من الانتقام الشعبي بسبب بشاعة الجرائم المرتكبة طوال أكثر من نصف قرن من الزمان. لكن انتعاش الدولة العميقة وانحسار المنسوب الثوري عربيا شجّع الدولة الأمنية على العودة من جديد مستفيدة من الفوضى التي تصاحب كل مسار انتقالي ومستفيدة من الأموال التي ضُخت من الخارج من أجل الإجهاز على الثورة التونسية.
اليوم تشهد الدولة الأمنية انتعاشه كبيرة بسبب طبيعة المرحلة الانتقالية الحساسة وبعد أن نجحت الدولة العميقة في لملمة أطرافها التي تبعثرت بفعل الثورة. فاستفادت من إنشاء هياكل خاصة بها وهي ما عرف في تونس باسم "النقابات الأمنية المسلحة" بما هي هياكل نقابية لحملة السلاح تدافع عن مصالح الأمنيين.
لكن خوض هذه النقابات في العمل السياسي وانخراطها في سياسة التحالفات المعلنة والخفية هو الذي حاد بالمطلب النقابي للهياكل وتحولت إلى طرف في نزاع سياسي ليس من مشمولاتها ولا من اهتماماتها ولا حق لها بالخوض فيه باعتبارها قوة حاملة للسلاح.
بل إن النقابات الأمنية سعت في كثير من الأحيان إلى تحقيق مطالب جديدة عبر محاولة تمرير "قانون زجر الاعتداء على الأمنيين" الذي يمنح القوات المسلحة حصانة كبيرة من كل مساءلة أو محاسبة بل يجعل منها هيكلا فوق العادة متمتعا بصلاحيات لا تحصى.
اليوم ومع عودة الممارسات البوليسية القديمة من تعذيب وتعسف واعتقال وتطاول على المؤسسات وإهانة للوطن والمواطن فإن مراجعة المنظومة الأمنية في تونس تعتبر ضرورة ملحة. فكيف يمكن أن نقبل بقوات مسلحة تحاصر السلطة القضائية في محكمة تعمل على تطبيق الدستور؟
الثابت الأكيد اليوم على الأقل هو أن إمكانية استنساخ الدولة الأمنية التي كانت قبل الثورة مع الرئيس الهارب "بن على" تبدو مستحيلة إجرائيا بسبب تعافي المؤسسة العسكرية من ناحية وبسبب اليقظة الشعبية والمدنية من ناحية أخرى. بناء عليه فإنه من صالح الجميع في تونس بناء هياكل أمنية جمهورية تحترم القانون وتلتزم بنصوص الدستور وتقطع مع الممارسات القديمة التي لوثت سمعتها بشكل مريع.
دون هذا الإجراء تبقى تونس مهددة بعودة الدولة القمعية التي تعمل على منع قيام مؤسسات أمنية جمهورية لتبقى هذه القوى رهينة الشبكات المالية والأجندات السياسية والحزبية ورهينة قوى خارجية تتربص بتونس وبمسارها الثوري الانتقالي كما ظهر ذلك جليا في شبكات التجسس على الدولة ومؤسساتها السيادية .