الحياة الإنسانية يقوم جزء كبير منها على الصراع، هذا ما تثبته الأيام، وما يقوله لك أصحاب الخبرات في هذه الدنيا. وحين يتعلق الأمر بالصراع، فلا بد أن تسبق خصمك بخطوات أوبخطوة واحدة على الأقل، إذا كنت تريد أن تنتصر في هذا الصراع على خصومك.
إذا سرت بجوار خصمك خطوة بخطوة وحذاء بحذاء فأنت في خطر شديد، أما إذا سبقك خصمك بخطوة أو أكثر فاشتر كفنك ونعشك، واكتب وصيتك، وودِّع أحبابك.
هذه حقيقة تنطبق أكثر ما تنطبق على الصراع السياسي، وخصوصاً الصراع السياسي في أوطاننا العربية المنكوبة بحكامها الخونة.
* **
في عصر مبارك (على سبيل المثال)، كان النظام دائما يسبق معارضيه بخطوة أو خطوات، لم يكن ذكاء منه بقدر ما كان خوفاً وتكاسلاً (وأحيانا تواطؤاً) من خصومه.
المعارضة المصرية تركت مبارك في بداية حكمه دون أي ضغوط تذكر، وقاطعت الانتخابات التشريعية في وقت كان ينبغي عليها أن تزاحم بكل قوة.
وبعد ذلك لم تدرك المعارضة المصرية أن العالم قد تغير بعد انهيار سور برلين، وتركت مبارك حتى امتص الصدمة، وعدل أوضاعه مع النظام الدولي الجديد، فاشترك في حرب الخليج، واكتسب شرعية دولية لا تقل عن الشرعية التي اكتسبها سلفه محمد أنور السادات حين وقع على اتفاقية الخنوع المذلة (كامب ديفيد).
منذ ذلك الوقت - وخصوصا بعد أن عزل مبارك المشير أبو غزالة - أصبح مبارك متقدما بخطوات كثيرة، وأصبح تقليص الفارق أمرا في غاية الصعوبة، خصوصا لدى جيل من السياسيين لا يملك طموح التغيير.
لذلك، حين اشتركت المعارضة بعد ذلك في انتخابات عام 1995م، سحقها مبارك سحقا بإجراءات تزوير لا مثيل لها، لأنه كان قد سبقهم بالفعل، والانتخابات في تلك اللحظة مجرد إجراء شكلي لا يعول عليه في التغيير.
***
يتساءل البعض: "كيف يمكن للمعارضة أن تعرف موقعها من خصمها؟ ما هي العلامات التي تدل على أن النظام يسبق المعارضة أو العكس؟".
نحن العرب نظن دائما أن من في الحكم يملك السلطة، ويملك كل شيء، وبالتالي هو يسبق الآخرين لمجرد وجوده في السلطة... وهذا خطأ كبير.
هناك علامات تدل على تقدم المعارضة أو تأخرها عن النظام، ومن أهم تلك العلامات...
أولاً: من الذي يضع قوانين اللعبة السياسية؟
في عصر مبارك (وينطبق ذلك على بن علي في تونس والقذافي في ليبيا وعلى كثير من انظمة الاستبداد)... كانت قواعد اللعبة واضحة، لا أحد يملك فرصة الاتصال بالناس، أو حق تكوين الأحزاب السياسية، أو جرأة النزول إلى الشارع وتنظيم عمل جماهيري، ولا أحد يملك وسائل إعلامية تذكر، لكي يعرض بضاعته الفكرية على الناس.
لذلك حين تأسست حركة كفاية في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2004م، أصبحت المعارضة المصرية تسير بجوار النظام خطوة بخطوة، تشاركه في تخطيط الملعب ووضع قواعد اللعبة، ولذلك بدأت الإضرابات والوقفات الاحتجاجية تجتاح مصر، حتى أصبحت ثقافة عامة خلال عدة سنوات.
***
العلامة الثانية التي تدل على حالة "السباق" بين النظام والمعارضة؛ هي خطاب المعارضة من حيث القدرة على المنافسة وتقديم البديل.
المعارضة التي تقول "لا لمبارك" أو "يسقط مبارك" معارضة فاشلة!
مبارك كان يقدم نفسه كمرشح وحيد، ويمهد لابنه من بعده، بينما كانت المعارضة المصرية تقول: "لا لمبارك": وتهرب من سؤال "من بديل مبارك"؟
لذلك، حين تأسست الحملة الشعبية لدعم البرادعي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009م تقدمت المعارضة المصرية على نظام مبارك خطوة، وبعد أن تأسست الجمعية الوطنية للتغيير في شباط/ فبراير 2010 تقدمت المعارضة خطوة أخرى، خصوصا مع طرح بيان التغيير للتوقيع، فبعد أن انتزعت حق النزول إلى الشارع وعدلت قواعد اللعبة، ها هي تطرح البديل، وتجيب على السؤال الصعب الذي تهربت منه لما يقرب من ثلاثين عاماً.
حين سبقت المعارضة النظام بخطوة... أصبحت المسألة مسألة وقت، وقامت ثورة يناير فكان الوضع مهيأ للتغيير.
***
إن من أسوأ ما يحدث هذه الأيام في صراعنا السياسي الطامح للتغيير؛ هو أننا أصبحنا معارضة لا تعرف خصمها أصلا، وتوجه طاقاتها للنيل والشماتة من الحلفاء لا من الخصوم، لذلك أصبحنا معارضة تسبقها الأنظمة بخطوات، ففقدنا قدرتنا على تعديل قواعد اللعبة، وعدنا مرة أخرى إلى مرحلة "لا"، و"يسقط" فأصبحنا نقول "يسقط حكم العسكر" و "لا للاستبداد"، ولم يعد هنالك من يفكر في كيفية تقليل المسافة بيننا وبين عدونا، أو في كيفية اللحاق به، وأصبح طموحا أن نسبقه بعيدا بعيدا.
لقد أصبحنا معارضة مريضة، لا هم لكثير منا سوى الشماتة في زميله المعارض، وأصبحنا نهتم بالانتقام من بعضنا البعض بدلا من توحيد صفوفنا لننتصر على عدو الوطن.
إن الفرصة الوحيدة التي تملكها المعارضة المصرية لكي تسبق هذا النظام الفاجر العميل هو أن تتوحد صفا واحدا أمامه، وأن تتجاوز خلافاتها، لكي تنجح في تقديم بديل مقنع للأمة، يحفز شبابها للعمل، ويخلق ظهيرا شعبيا داعما للتغيير.
بغير ذلك... سنظل دائما في مؤخرة السباق... وفي ذيل الأمم!
موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني : arahman@arahman.net