قال الكاتب والصحفي البريطاني ديفيد هيرست إن
القوات الروسية تكبدت أكبر خسارة في الأرواح في معركة واحد خاضتها على أرض أجنبية
منذ الحرب السوفييتية في أفغانستان بعد قصف القوات الأمريكية طابورا عسكريا
سوريا
مدرعا كان في طريقه للسيطرة على موقع تتمركز فيه قوات سوريا الديمقراطية قرب دير
الزور الغنية بالنفط.
وأوضح هيرست في مقاله بصحيفة "
ميدل إيست آي"
البريطانية أن "العشرات أو ربما المئات، من الجنود الروس لقوا مصرعهم عندما
انقضت المدفعية الأمريكية بمساندة من طائرات عمودية من طراز أباتشي وطائرة مقاتلة
من طراز AC-130 على الطابور العسكري".
ولفت إلى أن "ستارا من الصمت المحرج
أسدل على موقع المذبحة ولم يكن لدى كل من البنتاغون ولا الكرملين الجرأة للإعلان
عن المعركة التي نشبت بين الجانبين في سوريا يومي السابع والثامن من شباط/ فبراير
الجاري".
وقال إن تلك الحادثة
لم تكن الوحيدة بين القوات المدعومة أمريكياً والقوات الروسية في سوريا، فقد ترددت
مزاعم في البداية بأن طائرة سوخوي-25 أسقطت على يد قوات هيئة تحرير الشام، والتي
كانت في السابق من الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة.
لكن الصحفي البريطاني قال إن بإمكانه الكشف
أن "المجموعة السورية التي أسقطت الطائرة الروسية كانت في حقيقة الأمر جبهة
ثوار سراقب "ذات العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة والتي تزودها بالمعدات
العسكرية".
وأشار هيرست إلى ما تداولته وسائل الإعلام
بعد وقوع الهجوم في دير الزور والتي تحدثت عن سقوط أكثر من 200 إلى 300 قتيل
وتضارب الأنباء حول هويات القتلى.
ولفت إلى أن صحيفة
نيويورك تايمز نقلت عن مقاول أمني روسي يعمل في سوريا القول بأن معارفه في عدة
منظمات يعمل فيها مرتزقة أفادوا بوقوع خسائر جسيمة قد تكون تجاوزت المائتي قتيل.
أما وكالة رويترز،
واعتماداً على ثلاثة مصادر بما فيها طبيب يعمل في الجيش، فقالت إن ما يقرب من
ثلاثمائة روسي قتلوا أو جرحوا، وجاء في تقرير لها ما يلي: "صرح طبيب عسكري روسي
بأن ما يقرب من مائة شخص قتلوا، بينما صرح مصدر يعرف عدداً من المقاتلين بأن حصيلة
القتلى تجاوزت الثمانين رجلاً".
في هذه الأثناء صرح
أليكساندر أفرين، عضو حزب "
روسيا الأخرى" القومي، الذي لقي أحد أعضائه
واسمه كيريل أنانييف مصرعه في القتال، بأنه يعلم بوقوع خسائر جسيمة تكبدتها
التشكيلات العسكرية غير النظامية المرتبطة بروسيا.
وتساءل هيرست:
"من تلك القوات الروسية الأخرى التي كانت في معية الطابور السوري المدرع؟".
وأوضح أنهم عبارة عن
مقاولين مرتزقة جندتهم منظمة عسكرية غير نظامية تدعى "واغنر غروب"،
استمدت اسمها من كنية الضابط الذي يقودها.
وأشار إلى أنه على الرغم من إطلاق اسم
المرتزقة على هذه المهنة فإنه "لا ريب إطلاقا في أنهم عناصر روسيون يستخدمون مرافق تدريب توفرها وزارة الدفاع
الروسية ويحصل قادتهم على أوسمة من الكرملين وسبق لهم التواجد في ساحات حروب أخرى
مثل أوكرانيا وشبه جزيرة القرم".
ولفت إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي الروسية
لم تلتزم الصمت كما فعل الكرملين وأعلن مدونون معارضون باسم "فريق استخبارات
الصراع" أسماء أربعة من القتلى وهم: أليكسي لاديجين من رايازان، وستانسلاف
ماتفيف وإيغور كوستوروف وفلاديمير لوغينوف من كالينينغراد. وهذا الأخير، لوغينوف،
زعمت منظمة روسية للخيالة في منطقة البلطيق أنه واحد من أعضائها.
وقالت المجموعة: "رغم
أن العدد الإجمالي لعناصر واغنر الذين قتلوا في الغارة الجوية التي شنها عليهم
التحالف قد لا يُعرف بتاتاً، إلا أنه ما من شك في أن هذه الواقعة حصلت فعلاً، ولا
أدل على ذلك من تسارع الأخبار التي نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي حول مصرعهم،
مع أن أقرباء وزملاء المرتزقة الروس الذين يلقون حتفهم في مثل هذه الظروف لا
يعلمون بمقتلهم إلا بعد أسابيع أو حتى شهور من وقوع الحدث".
ومن المفارقة أن هذه
القوات، وهي نفسها التي أشاد بها الكرملين على ما تبذله من جهود في سبيل الوطن في
أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، يتم إنكار وجودها حتى اللحظة في سوريا ولكن ليس من قبل
القوميين الروس في كافة أنحاء البلاد الذين يفاخرون بها.
وبشأن التدخل الروسي
في سوريا قال هيرست إنها بمثابة حرب بالاختيار كما يرى المحلل المخضرم في شؤون
السياسة الخارجية ديمتري ترينين في كتابه "ما الذي تريد تحقيقه روسيا في
الشرق الأوسط؟"، بعث بوتين بعدة رسائل حول العالم عندما أرسل قوة طارئة صغيرة
مشكلة من 32 طائرة مقاتلة إلى سوريا.
وشكلت سوريا فرصة
للتعافي من "حالة أفغانستان" والتخلص من عبء إرثها الذي كان يمنع الروس
من التدخل في البلاد الإسلامية، وكانت سوريا أول منطقة خارج الجوار الروسي يتم
فيها نشر قوات روسية، وسوريا هي التي كسرت الاحتكار الأمريكي على استخدام القوة،
وسوريا سمحت لروسيا بالعودة إلى المسرح الدولي كلاعب مستقل.
وقال إنه ما من شك في
أن عنصراً قوياً ذا علاقة بالوضع المحلي ساهم في تحفيز بوتين، وذلك أنه ربط ما بين
الربيع العربي وسلسلة من الانتفاضات التي انطلقت على العتبات الروسية، أي تلك
الثورات الملونة التي هزت أركان صربيا وجورجيا وأوكرانيا.
ونقل عن المحلل الروسي
قوله إنه "نجم عن الحماسة الغربية لنشر الديمقراطية في المناطق التي تعتبر
معاقل للأنظمة السلطوية أن حامت الشكوك داخل وحول الكرملين بأن المنظمات غير
الحكومية الغربية وتلك الممولة من جهات غربية قد تسعى لإطلاق ربيع روسي. ما لبثت
هذه الشكوك أن تأكدت حينما ظهرت فجأة مسيرات احتجاجية جماهيرية في موسكو في شتاء
2011/ 2012 في تحد شخصي ومباشر لبوتين لم
تشهد له البلاد مثيلاً منذ أن وصل إلى السلطة في عام 2000".
وأشار إلى ان أحداث ميدان كييف بين 2013/ 2014
قوى شكيمة روسيا وعزمها على منع حدوث ذلك في سوريا وخلص الروس إلى أن الإسلاموية كانت في الأغلب
هي التي ستحصد ثمار ذلك: فكان "الشتاء الإسلامي" هو المحطة التالية بعد
إجهاض الربيع الديمقراطي.
وقال إن المحلل الروسي حاول في كتابه إبطال
فكرة أن روسيا في عهد بوتين تمثل إعادة توليد للاتحاد السوفييتي بهيئة قوة محافظة
ومعادية للثورة وهو ما جعل الممالك الخليجية والدكتاتوريات العسكرية تهفو إليها
وتؤيد أفعالها.
لكن هيرست قال إن
بوتين وجد أن إعلاناته المتكررة عن تحقيق النصر في سوريا ثبت أنها كانت
متسرعة وسابقة لأوانها نوعاً ما. فمثله في ذلك مثل بوش
وبلير وكاميرون وساركوزي من قبله، ها هو بوتين يتعلم الآن أن إنهاء التدخل العسكري
في بلد عربي أصعب بكثير من البدء به.
ولفت إلى أنه بات واضحا عدم القدرة على ترك
بشار الأسد وحيدا في الميدان فهو ليس كأبيه حافظ ودون الدعم الجوي الروسي
والمليشيات
الإيرانية فلا حول ولا قوة للقوات السورية ولا يمكن الاعتماد عليها في
الاحتفاظ بأي أرض تستولي عليها.
وشدد على أنه بعد عام من سقوط شرق حلب، ثبت يقيناً أن
النصر لم يكن حليف أي من الطرفين. أما الوضع الأمريكي في سوريا فهو أسوأ من الوضع
الروسي. فبعد أن تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن المعارضة السورية ها هي الآن
تتلقى المال من السعوديين مقابل دعم قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها
الأكراد. وترفض الولايات المتحدة مغادرة سوريا بحجة استمرار التهديد الذي يشكله
تنظيم الدولة الإسلامية، هذا في الوقت الذي ثبت فيه أنها ليست في وضع يؤهلها للتوسط
لتحقيق تسوية سلمية.
وأضاف هيرست: "لم
تلبث أعمال ورسائل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أن تحولت منذ ذلك الحين إلى
حالة من التهافت التام. فهنا لدينا رئيس، هو دونالد ترامب، يصر على نفي تدخل الروس
في انتخابات عام 2016 بينما تقف المؤسسة الأمنية على النقيض من ذلك ساعية إلى
تقديم ما يكفي من الأدلة لإثبات حدوث التدخل الروسي. وبينما يعلن رئيس البلاد عن
أن لديه "ثقة عظيمة" بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تجد
أوساطاً رسمية في أمريكا تسرب تقارير تؤكد شراء الأمير للوحة ليوناردو دافنشي
بمبلغ 450 مليون دولار".
وقال إنه نفس الرئيس الذي
يهدد الأردن بعواقب ستترتب على امتناعه عن التعامل بإيجابية مع الاعتراف الأمريكي
بالقدس عاصمة لإسرائيل بينما يعلن وزير خارجيته عن موافقة الولايات المتحدة على
الالتزام بخمسة أعوام أخرى من الدعم الأمريكي مشددا على أن الولايات المتحدة لو
كانت في حرب فهي في حرب مع ذاتها.
ولفت هيرست إلى أن
مصادر في كل من أنقرة وطهران أبلغته بأن الإيرانيين عرضوا على الأتراك منحهم دورا
بارزا في سوريا بشأن الإعمار شرط الموافقة على بقاء الأسد لكن تلك الرسالة تفسر في
أنقرة على أنها إقرار بأنهم أخطأوا الحسابات بدعوة الروس للتدخل في سوريا.
ورأى أن لدى إيران
قوتين عظميين في سوريا لا يبدو أن أيا منهما على وشك المغادرة وحدث قصف عنيف من
قبل الإسرائيليين في سوريا أكدت مصادر تركية أنه كان ضربة حقيقية للقوات الإيرانية
هناك.
وقال هيرست إن رسالتها
لتركيا تؤكد ارتيابا إيرانيا تجاه نوايا بوتين، فقد دعت إيران روسيا لكي تساعدها
ولم تستدعها من أجل أن تحل محل القوات والمصالح الإيرانية، حيث إن إيران ترى في
سوريا امتداداً طبيعياً لدائرة نفوذها الممتدة حتى المتوسط. ولم تدعها للتدخل لتكون
الحكم في الحرب وفي السلام.
وقال إنه في المقابل
لا توجد لدى إيران نفس الهواجس تجاه دعوة
تركيا للعب دور أكبر. فبغض النظر عن
النتيجة، صار لدى تركيا الآن تواجد عسكري ضخم داخل سوريا، وهذا لا يقتصر فقط على
عفرين، حيث يسعى الأتراك نحو دفع القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي
إلى الوراء وإحلال السوريين العرب التابعين للجيش السوري الحر في منبج.
وتتواجد القوات
التركية داخل محافظة إدلب. وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد داخل تركيا حالياً ما يقرب
من 3.5 مليون لاجئ سوري، وتقيم فيها قيادات المعارضة السورية. فلو كان هناك بلد
يملك إنهاء الصراع بطريقة تضمن الحقوق السياسية والإنسانية لملايين السوريين فإنها
تركيا.
ورأى هيرست أن المفارقة
التي تدعو إلى السخرية أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي والبلدان العربية لديها
الكثير مما تشترك فيه، فكلاهما كانا مستهدفين وأصبحا ضحايا للاستكبار الغربي الذي
يقوده المحافظون الجدد منذ ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
وتابع بأن "المأساة
هي أن روسيا لم تتمكن من العودة إلى الساحة الدولية إلا من خلال التدخل العسكري
الذي دفعت فاتورته بادئ ذي بدء دماء السوريين وصار الآن يكلف دماءً روسية أيضاً واختار
أن يسير في نفس الدرب الذي سار فيه من قبله الأمريكان والبريطانيون والفرنسيون،
وها هو الآن يجد نفسه عالقاً في المستنقع السوري ويناشد الآخرين مد يد العون له
حتى يخرج منه".