شاع في بعض الكتابات الفكرية المعاصرة التفريق بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي باعتبار الأولى تتضمن نصوصا دينية معصومة، والثاني يمثل اجتهادا بشريا يعتريه ما يعتري سائر الاجتهاد البشري من قصور النظر، وخطأ الفهم والاستدلال.
وطبقا لذلك التفريق فإن الشريعة بنصوصها المنزلة هي التي تكتسب صفة الثبات والقطع واليقين، أما الفقه فهو إنتاج بشري مستقى من تفاعل الفقهاء مع نصوص الشريعة المنزلة، المحكوم بواقعيته وتاريخية إنتاجه، ما يعني محدودية صلاحيته لكل زمان ومكان بحسب باحثين ومثقفين.
لكن ذلك الرأي يقابل في الأوساط الشرعية الدينية برفض شديد، لأنه "يأتي على الشريعة كلها بالإبطال، إذ إن قطعيات الشريعة كلها هي فقه عن الشريعة، فهي إذن ليست معصومة حسب هذا التفريق، لأنه ليس عندنا نصوص في الشريعة تبين لنا لائحة القطعيات والظنيات، وإنما العلماء هم الذين توصلوا لذلك عن طريق العلم الضروري أو النظر إلى هذه القطعيات" وفقا للأكاديمي الشرعي المغربي، الناجي لمين.
وأضاف لمين لـ"عربي21": "إن القول بالتفريق بين الشريعة والفقه، وأن الشريعة معصومة، والفقه غير معصوم أذاعه المستشرق الألماني شاخت، وهذا التفريق لم يذكره الأصوليون (علماء أصول الفقه) من أول تاريخ التشريع إلى يومنا هذا".
وتساءل الناجي لمين، أستاذ الفقه الإسلامي وأصول في دار الحديث للدراسات الإسلامية العليا في المغرب "إذا كان بعض المتشرعة المتدينين يفرقون اليوم بين الشريعة وفقهها، فلماذا ينكرون على من يدعو إلى إعادة قراءة النص الديني، ويتهمونه بالفسوق والعصيان؟". في إشارة منه إلى القراءات الحداثية والعلمانية المتكاثرة مؤخرا.
وتابع لمين حديثه: "فلماذا الإنكار إذا، وتفريقهم بين الشريعة والفقه ودعوة هذا الداعي لهما نتيجة واحدة، وهي الإتيان على الشريعة نفسها بالإبطال؟"، مبينا أن علماء الأصول منذ العصور الأولى لا يعرفون هذا التفريق، إنما الذي نصوا عليه هو أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم حق في الظاهر والباطن، ولا يجوز الشك فيه، وقسم حق في الظاهر دون الباطن، وهذه عبارة الإمام الشافعي، وعبر الأصوليون بعده عنها بالقطع والظن الغالب.
لمين: علماء الأصول منذ العصور الأولى لا يعرفون هذا التفريق بين الشريعة والفقه
وأوضح الأكاديمي المغربي لمين أن "العالم في قسم الظن الغالب إذا توصل باجتهاده إلى حكم وجب عليه اتباعه، والدفاع عنه والمناظرة عليه، ولا يحل له العدول عنه إلا لضرورة، وللضرورة تفصيل ليس هذا محله"، على حد قوله.
ولفت لمين إلى أنه "إذا ساغ لنا التفريق بين الفقه والشريعة، فعلينا أن نفرق أيضا بين الطب والطبيب مثلا، مع أن الطبيب أحيانا يصف لنا الدواء أو يأمرنا بإجراء عملية جراحية بناء على الظن الغالب وليس على القطع، وأخطاء الأطباء معروفة".
ووجه لمين سؤالا إلى من يدعون إلى ذلك التفريق بقوله: "كيف نصل إلى هذه الشريعة المعصومة بدون فقه، وكيف نصل إلى الطب بدون طبيب؟ فهذا التفريق من هذه الناحية غير واقعي.. ولا يمكن تصور شريعة بدون فقيه يفهمها كما لا يمكن تصور طب بدون طبيب يطبقه ويحوله إلى واقع".
من جهته رأى الباحث الشرعي الفلسطيني هيثم السعيد أن "المفرق بين مصطلحات الشريعة والفقه ـ فيما يظهر ـ لا يعلم معناهما، إذ إن الشريعة هي أحكام الله، والفقه كذلك، وهما اسمان لمسمى واحد، والفقه والشريعة مصدرهما معصوم، وأحكام الله كذلك معصومة، ولكن بعض تلك الأحكام قطعية وبعضها اجتهادية".
ولفت السعيد في حديثه لـ"عربي21" إلى أن "غرض المستشرقين من ذلك التفريق هو الطعن أو التشكيك في شرع الله تحت عناوين كثيرة تتعدد في تسميتها وتتحد في هدفها، وهو النيل من أحكام الله، لذلك وحتى لا يدخلنا المفرق في متاهة نسأله عن الأحكام القطعية الثبوت والدلالة هل هي شرعية ومعصومة".
وأكدّ السعيد أن "التفريق بين الفقه والشريعة ليس معروفا في كتب الفقه الإسلامي، وأصول الفقه، ولا في تاريخ التشريع الإسلامي، ولا في علم قواعد الفقه".
السعيد: غرض المستشرقين من ذلك التفريق هو الطعن أو التشكيك في شرع الله تحت عناوين كثيرة تتعدد في تسميتها وتتحد في هدفها
وجوابا عن سؤال: ما وجه التفريق بينهما باعتبار الشريعة نصوصا معصومة وبين الفقه باعتباره إنتاجا بشريا يعتريه ما يعتري آراء البشر كما هو شائع في كتابات حداثية وعلمانية كثيرة؟ قال السعيد "لا وجه للتفريق بينهما، فالشريعة هي الفقه والفقه هو الشريعة، ولا زال العلماء يعبرون عنهما كمترادفين، يدوران حول معرفة أحكام الله المتعلقة بأفعال المكلفين والمستنبطة من الأدلة الشرعية".
وتابع الباحث الشرعي الفلسطيني حديثه "الشرع يتناول الأحكام القطعية المجمع عليها، والأحكام الظنية الاجتهادية، والتي كانت لله تعالى حكمة في اختلاف العلماء والفقهاء والأصوليين فيها، ومن حق كل فقيه اعتبار ما أداه إليه اجتهاده شرعا لأنه لا يبلغ عن نفسه، إنما يبلغ عن الله، وهو لا يوقع عن ذاته، وإنما موقع عن رب العالمين" بحسب عبارته.
بدوره قال الأكاديمي الشرعي المصري، محمد مصطفى البيومي "نعم هناك فرق بين الفقه والشريعة، فالشريعة لها إطلاقان عام وخاص، فالعام يشمل الدين عقيدة وعملا وأخلاقا، والخاص يقتصر على الأحكام العملية، وهذا المعنى هو الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاقه".
فالشريعة طبقا لبيومي "عبارة عن أحكام عملية واردة في الكتاب والسنة، والفقه عبارة عن فهم الفقهاء لهذه النصوص، وعلى قدر اقتراب الفقيه أو ابتعاده من النص الشرعي يكون قبول الرأي أو رده، وهذا ما جرى عليه عمل الفقهاء".
واعتبر البيومي، عضو هيئة التدريس في جامعتي الأزهر وأم القرى في السعودية، ما قاله بعض الأئمة "إن صح الحديث فهو مذهبي" بأنه أكبر دلالة على التفريق بين الشريعة والفقه".
البيومي: المادة الأساسية للفقه الإسلامي مستمدة من القرآن والسنة، ومن هنا فلا حرج في وجود فارق بين الشريعة والفقه
ووصف البيومي لـ"عربي21" محاولات المستشرق الألماني شاخت وغيره في التفريق بين الشريعة والفقه بأنها كانت تهدف إلى عزل الفقه الإسلامي عن النصوص الشرعية الأصلية، وهي مغالطة كبيرة أراد من ورائها إرجاع الفقه الإسلام إلى أصول رومانية".
وأوضح البيومي أن "المادة الأساسية للفقه الإسلامي مستمدة من القرآن والسنة، ومن هنا فلا حرج في وجود فارق بين الشريعة والفقه، إذ التعامل حينئذ سيكون في هذا النطاق، وهو علاقة العموم والخصوص بين اللفظين".
وطبقا للموسوعة الفقهية الكويتية فإن "بين الشريعة والفقه عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في الأحكام العملية التي وردت في الكتاب والسنة، أو ثبتت بإجماع الأمة، وتنفرد الشريعة في أحكام العقائد، وينفرد الفقه في الأحكام الاجتهادية التي لم يرد فيها نص من الكتاب أو السنة ولم يجمع عليه أهل الإجماع".