دأب برنامج جامعة بنسلفانيا منذ العام 2006؛ على إصدار تقرير خاص عن "المؤشر العالمي لتصنيف مراكز الفكر والمجتمع المدني"، معتمداً منهجية واضحة في الترشيح والتصنيف والترتيب، ومجنداً أكثر من 25 ألف خبير منتسب لجهات بحثية وإعلامية وحكومية؛ لفحص مخرجات مراكز الفكر ومنظمات المجتمع المدني المسجلة في قاعدة بياناته، ووفق معايير وشروط محددة وواضحة.
تكمن قيمة هذا التقرير (Global go to think tank index report)، علاوة على منهجيته المهنية، في كونه يرسم صورة عن حوالي سبعة آلاف مركز فكر حول العالم، ومقدار تأثيرها في السياسات وإرادات صُناع القرار في البلدان المتواجدة فيها. كما يمكّن من معرفة جدوى البحوث والتحليلات المنجزة من قبل هذه المراكز، وطبيعة العلاقة التي تربط هذه الأخيرة بإعداد وصياغة السياسات، والفاعلين والقيمين عليها، ناهيك عن الوساطة التي تقوم بها مراكز الفكر بين المجتمع وقضاياه وتحدياته وصناع القرار، أي ممارسي السلطة، وهي في واقع الأمر من المهام المفصلية في أي مجتمع.
تستحوذ الولايات المتحدة على 4614 منها، ويتوزع الباقي على كل بلاد المعمور. أما نصيب منطقة " المينا" فيبلغ 479 مركزا، تتصدر إسرائيل القائمة بـ67 مركز فكر، تليها تركيا بـ46، ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة بـ61
الحاجة أكثر من ماسّة لمراكز الفكر، بحسبها إطارات للتفكير والاجتهاد الجماعيين، لصياغة حلول ومعالجات للأزمات والتحديات التي تضغط باستمرار على المنطقة العربية
لا شك أن ثمة أدواراً مركزية لمراكز الفكر وبيوت الخبرة. وإذا استحضرنا السياقات المرتبكة والمعقدة للمنطقة العربية، نُدرك أكثر أهمية ما يمكن أن تُساهم به هذه المراكز بالنسبة لصناع القرار، وخدمة المجتمعات عموماً. فلو اقتصرنا على التطورات الطارئة في الألفية الجديدة، لخلصنا إلى أن المنطقة العربية، خلافا لكل مناطق العالم، تعيش سياقات قلَّ نظيرها، وتتجاذبها تيارات سياسية وفكرية لم تشهد مثيلاً لها من قبل. والأخطر أن معالم توجه السياسات فيها غير واضحة ومستقرة، بما يسمح للمجتمعات بالشعور بالأمان في أوطانهم. ومن هنا تكون الحاجة أكثر من ماسّة لمراكز الفكر، بحسبها إطارات للتفكير والاجتهاد الجماعيين، لصياغة حلول ومعالجات للأزمات والتحديات التي تضغط باستمرار على المنطقة العربية، وتحديدا على قادتها وصناع سياساتها. نُذكر فقط أن كل السياسات الجديدة التي اعتمدها الرئيس "روزفلت" لإعادة بناء اقتصاد بلاده بعد الأزمة المالية عام 1929، ومشروع "مارشال" الذي غيّر وجه أوروبا وساعدها على إعادة تشييد اقتصادياتها بعد الحرب الثانية، كان بفعل اجتهادات مراكز الفكر في الولايات المتحدة. وقد استمر قادةُ هذا البلد حريصين على إدامة جسور التواصل والتعاون بينهم وبين مراكز الفكر حتى اليوم، ولعل هذا ما يفسر في الواقع استحواذ الأمريكيين على ما يفوق 60 في المئة من مجموع مراكز الفكر في العالم.
تتمتع مراكز الفكر بميزات لا نجدها في مراكز البحوث التابعة للجامعات، وإن كانت العلاقة بين النوعين من المراكز تكاملية وتلازمية، أهمها قدرة مراكز الفكر أو بيوت الخبرة على إنجاز المطلوب منها، أي الاستشارة والإرشادات والتحليلات، والمعالجات بسرعة أكثر مما تقوم به مراكز ومختبرات البحث الجامعية؛ التي تتطلب إجراءات ومساطر أعقد وأطول مما تستلزمه مراكز الفكر، لا سيما وأن صناع القرار يعيشون تحت ضغط الوقت وإكراهاته، ويحتاجون إلى حلول سريعة وفورية.
حين يكون مركز الفكر خاضعا للسلطة، وموجها من قبل أجهزة الدولة، وغير قادر على التحكم في تفكيره واجتهاداته، يتعذر عليه التحول إلى رافعة خلاقة لإرشاد صناع القرار