كنت قد كتبت قبل ذلك عن التهاون في مؤسسة
القضاء المصري،
وتخريب مرفق العدالة الذي يتعلق بالحفاظ على الإنسان كيانا وحقوقا، وإنصاف المواطن
وجودا وارتقاءً، ذلك أن القضاء في حقيقة الأمر كان يعد بالنسبة للمواطن في أغلب
الأحوال الملاذ الأخير؛ لعله يجد عدالة أو إنصافا. وكنت كتبت قبل ذلك عن أن القضاء
المصري هو الذي يقوم بإهانة نفسه، وأن التلويح بسلاح إهانة القضاء ليس إلا حالة
لتصفية الحساب السياسية من جهة، والتغطية على فشل القضاء في تحقيق مهمته الأساسية
في ترسيخ وتمكين أسس العدل ومبادئ الإنصاف من جهة أخرى. وأكدنا أن مؤسسة القضاء
للأسف الشديد امتهنت كل الأسس المرعية بحفنة من القضاة تصدروا المشهد، ليقوموا بممارسة
الظلم والإجحاف على أوسع نطاق ترضية للمستبد، ولتشكيل غطاء لكل أفعال استبداده
وظلمه، ولكل سياسات فجره وفاشيته.. كان المقصود بذلك أن مرفق العدالة قد فقد رصيده
لدى هذا الشعب حينما فقد القاضي كونه قاضيا، وتحوله لأن يكون للسلطان خادما، حتى إن البعض صار يتندر "الحكم بعد المكالمة"؛ يقصد بذلك أن تأتيه المكالمة
لتحدد له ما يقول أو يحكم به.
نؤكد على ذلك بمناسبة تلك
الأحكام التي
صدرت في قضية جمعت بين الرئيس المختطف ورموز سياسية معارضة، وبعض من هؤلاء الذين
كانوا من سدنة النظام ومؤيدي ذلك النظام الانقلابي العسكري بعد الثالث
من تموز/ يوليو. مثل هذا الجمع حالة نموذجية عن كيف يتعامل القضاء ويصدر
الأحكام جزافا؛ في عملية تأديبية أرادها المستبد، ويكون القاضي للأسف الشديد، وهو
الحامي لحياض العدالة، هو أداة للمستبد الفاشي في بطشه وظلمه وطغيانه،
فصارت مشاركة للمستبد مع قضاء خانع تابع لا يمثل إلا أداة وغطاء للمستبد
في سياسات ظلمه وجوره، وترويعه لكل من يعارض النظام ولو ببنت شفة، ولو تفوه بحرف
واحد لا يعجب أجهزة أمن النظام. ومن ثم، فإن هذا الحكم الذي طال الرئيس المختطف،
وقاضيا كبيرا مخضرما، هو الدكتور الخضيري، وشاعرا ارتبط اسمه بثورة يناير، وهو عبد
الرحمن يوسف، وأسدا لا يزال يجهر بالحق رغم أنه وضعه في غياهب السجون، وهو المحامي
عن الحق عصام سلطان، ووزيرا سابقا هو محمد محسوب، ومعارضا ليبراليا هو عمر حمزاوي..
تلك الأحكام شديدة الانتقائية تعبر عن حالة عبثية، تحكم بالغرامة بالملايين
وبالسجن سنين، لا تأبه لشيء، وتتحدث عن أن هؤلاء جميعا قد تواطأوا وشاركوا في
جريمة واحدة؛ هي إهانة القضاء.
أقول، وبأعلى صوت مرة ثانية
وثالثة، إن القضاء بأحكامه في قضايا شتى؛ هو من يهين نفسه ويهين جوهر وظيفته في
إقامة العدل وتحقيق الإنصاف، بل صار أداة لكل ظلم وجور، وأداة للمستبد.. نستطيع أن
نعدد مئات الأحكام التي تعبر عن مؤسسة الظلم والإجحاف (العدل والإنصاف سابقا)،
ليتأكد لنا أن جهاز القضاء صارت صورته السلبية في أذهان جموع الناس، أنه لا يشكل
حماية للمواطن بل هو جزء من عملية استهدافه ومن ظلمه الممنهج ومن تسويغ الفجور في
ظلم المستبد وفاشيته، ليتأكد لنا أن القضاء المصري، ممثلا بهؤلاء الذين تصدروا
مشهد القضاء والذين لا يجيدون قراءة آية أو حتى الحكم الذي يصدرونه؛ ذلك الحكم
الذي يملى عليهم، فهم حتى لا يستطيعون ولا يحسنون قراءته.. ليؤكد كل ذلك جانب
تدهور حال مؤسسة العدالة بكل أجهزتها. ومن خلال هؤلاء الذين تصدروا لإصدار أحكام
انتقامية وانتقائية لا تمت للقانون أو الدستور بأي صلة، ولا تمت للوظيفة أو الدور
بأي معنى، بدا هؤلاء سيوفا مسلطة بأيدي المستبد؛ يمتثلون لكل سياسات بطشه وفجره
وطغيانه.
وهنا وجب علي أن أضمّن هذا المقال
شهادة لقاضٍ نحسبه يعبر عن ضمير قضاء العدل والإنصاف، لا هؤلاء الذين يسهمون في
مسيرة الظلم والإجحاف.. إنه بيان ونداء من أحد رجال القضاء الذي كان وزيرا للعدل يعبر فيه عن حال القضاء الذي وصل إليه، حتى صارت أحكام الإعدام لديه كشربة ماء..
لا يدقق، إنه يشكل معنى المقصلة أو حبلا يشنق، أو رميا بالرصاص.. قضاء يستخف بحياة الناس، سواء كان قضاء مدنيا صار
ألعوبة في يد الانقلاب، أو قضاء عسكريا تابعا هو جزء من هذا الانقلاب.
بيان وشهادة للمستشار أحمد
سليمان لوقف الإعدامات الجائرة بحق الشباب:
أشهد أنا المستشار
أحمد سليمان، وزير العدل المصري الأسبق، أن النظام القائم في مصر يحتقر القانون
والدستور، ولا يعبأ بهما، وتتلبسه رغبة عارمة في تصفية خصومه. كما أن القضاء المصري
المدني والعسكري يمر بمحنة لم يمر بها من قبل، فأصبح يخالف أحكام القانون علنا
وعمدا، ولا يبالي بمصادرة حقوق الدفاع، ويقضي في العديد من الدعاوى على خصوم
النظام بالسجن المؤبد والإعدام للمئات؛ دون دليل قانوني معتبر، واستنادا لمحاضر
التحريات وحدها. ومن ثم اهتزت ثقة الرأي العام في أحكام القضاء في الداخل والخارج،
كما أن المنظمات الحقوقية الدولية باتت تنظر إليه باعتباره أداة انتقام في يد
النظام وذلك استنادا للأدلة الآتية:
أولا: أن السلطة
القائمة منذ وقوع الانقلاب أسندت للعديد من أبناء مصر أفعالا لا يعاقب عليها
القانون. ورغم ذلك، تقرر النيابة العامة حبسهم، كما حدث مع الطفل الذي ضبطت لديه
مسطرة تحمل شعار رابعة، أو ذلك الغلام الذي ارتدى قميصا عليه عبارة وطن بلا تعذيب،
فأمضى في السجن نحو عامين.. وغيرهما كثير. وكذلك تقديم متهمين للمحاكمة فى قضايا
قام الدليل على عدم صحتها، مثل قضية سد البلاعات في الإسكندرية؛ التي اتهمت جماعة
الإخوان بارتكابها، وتم تقديمه (المتهمين) للمحاكمة رغم إفادة المحافظة أن هذه
البلاعات سدت نتيجة إلقاء كتل أسمنتية فيها أثناء إنشاء عدد من الأندية على مقربة
منها، وأن ذلك منذ نحو عشرين عاما. ورغم ذلك، تم تقديم نحو 33 متهما للمحكمة
العسكرية التي قضت بالسجن المؤبد لـ12 متهما، والسجن 15 عاما لـ21 متهما.
ثانيا: أن المجلس
القومي لحقوق الإنسان الحكومي المصري قد رصد في عدة تقارير أن المشكلة الرئيسية
تكمن في التوسع في قرارات الحبس الاحتياطي، وأنه بات في حد ذاته يمثل عقوبة لا يمكن
التعويض عنها، كما أشارت بعضها إلى أن تجديد الحبس يتم في غيبة المتهمين، وذلك أمر
مخالف للقانون لا يخفى على السلطة القائمة بالتجديد.
ثالثا: أن السلطة
القائمة تعتمد أسلوب تزوير التحريات أداة للانتقام من كل من ترغب في الانتقام منه.
وقد أذاعت قناة مكملين تسجيلا لضابط الأمن الوطني الذي حرر محضر تحريات قضية
الاتحادية، وهو يعترف بأنه قد صاغها من بنات أفكاره للخلاص من الرئيس مرسي وجماعته،
كما أن محضري التحريات في قضيتي قضاة البيان وقضاة من أجل مصر تضمنا وقائع مختلقة
ولا أساس لها من الصحة، وقد طعن القضاة عليها بالتزوير أمام مجلسي التأديب، وقدموا
بلاغين بالواقعتين للنائب العام ولم (يتم التحقيق بهما) لا في النيابة ولا أمام مجلسي
التأديب وتم عزل عشرات القضاة استنادا إليهما.
رابعا: أن دوائر
الإرهاب تم تشكيلها من قضاة معينين للفصل في قضايا بعينها، والكثير منهم تحوم حوله
الشبهات، وكانت لبعضهم تحقيقات مفتوحة تم إغلاقها قبيل تشكيل هذه
المحاكم. وقد
أهدر الكثير منهم قواعد القانون وضمانات المحاكمات العادلة، كما فعلت دائرة سعيد
يوسف برفضها منح المتهين في قضيتي اقتحام مركزي العدوة ومطاي أجلا لرد المحكمة،
وعدم سماعها لدفاع المتهمين. و(تم) النظر بالقضيتين اللتين زاد عدد المتهمين في كل
منهما على 500 متهم؛ في سويعات قليلة، في جلستين فقط، ثم أحال (القاضي) جميع المتهمين على اختلاف مواقفهم
للمفتي لاستطلاع رأيه في إعدامهم. وكذلك القاضي شيرين فهمي الذي قضى بمفرده، دون عضوي
الدائرة، بإعدام المتهمين في قضية عادل حبارة، وهي مخالفة صارخة تدل على مدى جبروت
القاضي. وأحمد جمال الدين عبد اللطيف؛ الذي منع موظفي المحكمة من استلام صحيفة
التقرير برده والمستشار أيمن عباس من قضاة البيان وقضاة من أجل مصر، كما منع
الموظفين من قيد طعن هؤلاء القضاة على الحكمين بالنقض، وكلها إجراءات باطلة لا تستند
إلى قانون من قريب أو بعيد، ولكنها تحقق هوى السلطة.
خامسا: إن الكثير من
القضاة بات أكبر همهم هو إرضاء السلطة القائمة، سواء لنيل رضاها عنهم، أو اتقاء شرها
وانتقامها منهم، وأصبحت أحكامهم ناطقة بخضوعهم للنظام السياسي، ومن ذلك حكم محكمة
الأمور المستعجلة باعتبار كتائب القسام جماعة إرهابية، بينما تقضي في دعوى اعتبار إسرائيل
دولة إرهابية بعدم اختصاصها بالنظر بالدعوى، والحكمان من محكمة واحدة، وكلاهما
يحقق أهداف النظام دون نظر لحكم القانون، كما قضت ذات المحكمة بوقف تنفيذ حكم
القضاء الإداري ببطلان التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية، رغم عدم
اختصاصها بالنظر بالدعوى بنص القانون والدستور. وليس ذلك لخطأ في فهم القانون،
ولكن لفساد واختلال في نفس القاضي الذي جعل همه إرضاء الحاكم وحسب.
سادسا: أسرف الكثير من
القضاة في الحكم بأقصى العقوبة المقررة قانونا، ودون سند من القانون، سواء كانت
العقوبة هي الإعدام أو السجن المؤبد. ففي قضية اقتحام مركز شرطة مطاي، قضت دائرة
سعيد يوسف بإعدام 37 متهما، وبالسجن المؤبد على 394 متهما.. وقضي بنقض الحكم
وإعادة المحاكمة، فقضت المحكمة بإعدام 12 متهما وبالسجن المؤبد على 140 متهما،
وببراءة 238 متهما كان محكوما عليهم بالإعدام والمؤبد. والخطير في الأمر هو ما
قالته أرملة نائب المأمور المجني عليه؛ من أن المتهمين المحكوم عليهم ليسوا هم من
قتلوا زوجها، وأن قتلته ما زالوا هاربين. وفي قضية كرداسة، قضت دائرة ناجي شحاتة
بإعدام 183 متهما، وتم نقض الحكم لابتنائه على التحريات وحدها. وبعد إعادة
المحاكمة، قضى بإعدام 20 متهما فقط، وبراءة 21 متهما ممن قضى بإعدامهم، وبالسجن
للباقين بين المؤقت والمؤبد. وفي قضية غرفة عمليات رابعة، قضت المحكمة بإعدام 14
متهما، وبالسجن المؤبد لـ 37 متهما. وتم نقض الحكم، وفي إعادة المحاكمة قضى بإلغاء
عقوبة الإعدام، ومعاقبة ثلاثة فقط بالسجن المؤبد، وبالسجن 5 سنوات لـ15 متهما،
وبراءة 21 متهما ممن كان محكوما عليهم بالإعدام والمؤبد. وفي الجناية 58 لسنة 2015
عسكرية، والخاصة بقتل أربعة أشخاص والشروع في قتل ثمانية آخرين والتعدي على
المنشآت العامة واستعمال القوة والعنف مع الشرطة والجيش، تم تقديم 116 متهما؛ قضت
المحكمة عليهم جميعا بالسجن المؤبد، وكان من بينهم الطفل أحمد قرني شرارة، البالغ
من العمر أربع سنوات، وقدم دفاعه شهادة ميلاده للنيابة العامة وللمحكمة، وسمير عبد
الرحيم الموجود خارج البلاد وقت الحادث وقدم دفاعه شهادة مصلحة الجوازات التي تثبت
ذلك. وفي الجناية 5192 لسنة 2015 الدقي، قضت المحكمة بإعدام 11 متهما، وبالسجن
المؤبد لـ14 متهما. واستندت في إدانتها لعدد من المتهمين، من بينهم عبد الرحمن
محمد حسن، إلى التحريات وحدها، وقضت بإعدامه. ويقيني أنه لو تمت هذه المحاكمات
وغيرها في الظروف الطبيعية، لما كانت الأحكام بهذه البشاعة.
سابعا: تولى إعلام
الانقلاب الدعوة علنا لتصفية المتظاهرين فورا، ودعا الشرطة لذلك بدلا من القبض على
المتهمين وإضاعة الوقت في المحاكمات، كما حدث في مظاهرات المطرية، ونادى بتصفية
المتهمين حتى ولو كانت الشرطة قد تمكنت من القبض عليهم، كما حدث في واقعة قتل
الدكتور محمد كمال وياسر شحاتة. والأمثلة لا تخضع لحصر، الأمر الذي يكشف بوضوح أن
هذه السلطة تسعى للانتقام من خصومها السياسيين وكل من يعارضها، سواء بالتصفية
الجسدية بعيدا عن القانون، أو بأحكام الإعدام في ساحات المحاكم، وأن المحاكمات في
هذه الفترة تفتقر إلى ضمانات المحاكمات العادلة، وأن المحاكم تتعمد مخالفة القانون
لتصل إلى الأحكام التي ترضي السلطة، ولو لم تكن هناك أدلة سوى التحريات التي تستند
إليها المحاكم وحدها، حتى في الحكم بالإعدام، وهو أمر بالغ الخطورة على المتهمين،
وعلى العدالة وعلى القضاء. ولم تفلح كل الانتقادات التي وجهت للقضاء والمحاكمات،
من الداخل والخارج، في كبح جماح آلة الانتقام، ووقف نزيف الدم المصري الذي يهدر
تارة من ضابط بطلقة رصاص، وتارة أخرى بحكم دون دليل معتبر قانونا؛ من قاض عسكري أو
مدني.
لذلك.. أطالب بضرورة إصدار قانون بوقف تطبيق عقوبة الإعدام
مؤقتا، حفظا لدماء بريئة قد تزهق ظلما، وليس اجتراء على حكم الله عز وجل، حتى يأذن
الله لمصر بالنصر والاستقامة على شرعه، وينقذها من هاوية الانقلاب.