تلقى النفوذ الفرنسي في إفريقيا في السنوات الأخيرة؛ ضربات متتالية، وذلك بفعل التحول الاستراتيجي لعدد من الدول العظمى، أو الآخذة في النمو، نحو إفريقيا.
وحاولت الخارجية الفرنسية، ووزارة الدفاع، أن تبذل جهودا مضنية من أجل تحصين هذا النفوذ، سواء من خلال الوجود العسكري في مالي وإفريقيا الوسطى، أو من خلال تجديد الاتفاقات الأمنية مع عدد هائل من الدول الإفريقية، أو من خلال استمرار احتكار التعاون التجاري مع هذه الدول. لكن، لم تخل هذه الجهود من تحديات كبيرة، ارتبط بعضها بفشل عمليات عسكرية في القضاء النهائي على المجموعات الإرهابية وإعادة الأمن والاستقرار، كما هو الشأن في مالي، وارتبط بعضها الآخر بمحدودية النجاح في تأمين الانتقال ونزع فتيل التوتر الطائفي والإثني والديني في إفريقيا الوسطى، الذي اضطر الرئيس الفرنسي السابق، بتنسيق مع أركان الجيش، إلى إقرار خفض عدد القوات الفرنسية؛ في أفق السحب الكامل وتسليم المهمة بالكامل إلى قوات الأمم المتحدة.. وارتبط بعضها الآخر بتأجج التنافس مع القوى العظمى، فقد نجحت الولايات المتحدة مرتين، وذلك سنة 2005 و2009 في تشكيل مبادرتي شراكة لمكافحة الإرهاب عبر الصحراء مع دول الساحل جنوب الصحراء، بشراكة مع كل من المغرب والجزائر، وذلك دون حضور فرنسي، كما ارتبط البعد الآخر بالإجهاد المالي الذي بدأت فرنسا تستشعره من جراء تمويل ودعم نفوذها العسكري في إفريقيا، في ظل انتقادات من ضعف العائدات والمس بسمعة القوات العسكرية الفرنسية. فقد صنفت فرنسا باعتبارها الدولة الأكثر إنفاقا عسكريا على مستوى غرب أوروبا، إذ تنفق على حوالي 9000 عسكري فرنسي، منذ سنة 2015، بإنفاق سنوي يصل إلى مليار يورو! وتعرضت سمعة قواتها لهزات عنيفة في إفريقيا الوسطى، بسبب ضلوعها في فضائح وجرائم جنسية.
حاولت الخارجية الفرنسية، ووزارة الدفاع، أن تبذل جهودا مضنية من أجل تحصين هذا النفوذ، سواء من خلال الوجود العسكري أو من خلال تجديد الاتفاقات الأمنية مع عدد هائل من الدول الإفريقية، أو من خلال استمرار احتكار التعاون التجاري
حاصل هذه المعطيات، أن التفكير الاستراتيجي الفرنسي في إفريقيا تمحور حول نقطتين اثنتين:
الأولى، تأمين المصالح الفرنسية في إفريقيا، والحفاظ على حديقتها الخلفية في هذه المنطقة التي كانت تمثل مستعمراتها التقليدية، بما يعني هذا الهدف تقوية قدراتها التنافسية وإزاحة القوى المنافسة عن المنطقة، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية أبدت غير مرة تحفظات بشأن إعطاء
فرنسا تفويضا مطلقا للتدخل العسكري في إفريقيا.
والثانية، البحث عن تمويل يساعدها على تحقيق هذه الاستراتيجية، والتخفف من الضغط العسكري الذي يشكله الحضور الفرنسي المكثف في المنطقة، وفي الوقت ذاته، التحلل من الالتزامات المالية التي تتكلفها الموازنة العامة للدولة الفرنسية. فالقوة المشتركة، حسب التقديرات المعلنة، تحتاج ابتداء إلى 250 مليون يورو، ثم تحتاج إلى ما لا يقل عن 60 مليون يورو كل سنة.
في سبيل تحقيق هذين الهدفين، استثمرت فرنسا من جديد الورقة الإرهابية وتصاعد التحديات الأمنية في المنطقة، لتدعو إلى اجتماع في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، شاركت فيه مجموعة دول الساحل الخمس التي تضم بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وشركاء دوليين آخرين، بهدف تشكيل قوة عسكرية مشتركة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، لكن هذه المرة من غير مشاركة جزائرية، لاعتبارات يعود تقديريها بأن الاتحاد الإفريقي هو المعني بالدرجة الأولى بتشكيل هذه القوة.
المثير في الموقف، أن فرنسا حرصت على أن تكون السعودية والإمارات العربية المتحدة ضمن الدول الأساسية الشاهدة على تأسيس هذه القوة، والمتعهدة بدعم القوة المشتركة ماليا، بنحو 100 مليون دولار بالنسبة للسعودية، و30 مليون دولار بالنسبة للإمارات العربية المتحدة، في حين تعهد الاتحاد الأوروبي، المعني المباشر بالتحديات الأمنية في المنطقة، بنصف ما تعهدت به السعودية. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي تعهدت بـ60 مليون يورو، فتحرص على أن تقدم دعمها للقوى العسكرية الخاصة بكل دولة على حدة، وفق شروط خاصة، بدلا من وضع الاعتماد المالي في صندوق القوة المشتركة التي ترعاه فرنسا، في حين طلب من كل دولة من دول الساحل الخمس أن تقدم 10 ملايين يورو.
السعودية والإمارات، اللتان وحدهما قدمتا أكثر من نصف التمويل اللازم لانطلاق القوة المشتركة، فلا يظهر في أجندتهما أي رؤية استراتيجية، ولا يظهر أي عائد يمكن جنيه من خلال هذا السخاء المبالغ فيه
المفارقة، أن كل هذه الدول التي قدمت تعهداتها بدعم هذه القوة المشتركة، تقدر مصالحها بشكل جيد، وتقدم الدعم وفق رؤية استراتيجية مدققة، سواء بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي يعد المتضرر الأول من تصاعد عمليات الإرهاب في المنطقة، وتواتر الهجرة السرية لمواطني هذه المناطق إلى الضفة الشمالية للمتوسط، أو بالنسبة لأمريكا التي تحقق هدفها في مكافحة الإرهاب، وتستمر في توسيع منافذ الاختراق للقارة الإفريقية من جهة غربها، وفي الوقت ذاته، تقدم دعمها من خلال علاقات ثنائية خاصة بمجموع هذه الدول الخمس، حتى لا تضع بيضها في السلة الفرنسية. أما فرنسا، الرابح الأكبر من هذه الصفقة، قتضمن تأمين نفوذها التقليدي في المنطقة، وتخفف الضغط عن حضورها العسكري، وعن موازنتها المالية، وتأكل الثوم بفم القوى الخمس والدول الممولة. أما
السعودية والإمارات، اللتان وحدهما قدمتا أكثر من نصف التمويل اللازم لانطلاق القوة المشتركة، فلا يظهر في أجندتهما أي رؤية استراتيجية، ولا يظهر أي عائد يمكن جنيه من خلال هذا السخاء المبالغ فيه؛ سوى أن تظهر في الصورة مشاركة مالية فعالة لهما في مكافحة الإرهاب في إفريقيا!!
التقدير أن هذه القوة المشتركة، مثلها مثل المبادرات السابقة التي اندرجت ضمن التدخل العسكري لمكافحة الإٍهاب، لن تتمكن من تحقيق هدفها في القضاء على المجموعات الإرهابية؛ من دون مشاركة إقليمية لدول المنطقة، ولن يكون بوسعها أن توفر التمويل اللازم لديمومة عملها الذي يفترض أن يستمر سنوات؛ ما دام القصد هو استئصال المجموعات الإٍرهابية من المنطقة. لكن، من زاوية استراتيجية، فإن الكسب الفرنسي سيتعزز من خلال تأمين مصالح فرنسا في المنطقة، وتقوية قوتها التنافسية فيها، وترميم جزء من سمعتها التي تبددت في ممارسة قواتها العسكرية في إفريقيا الوسطى، وضمان تعبئة فرنسية داخلية لسياستها الخارجية في إفريقيا، ما دامت الميزانية ستتخفف كثيرا من خلال الدعم السعودي والإماراتي.