من المؤكد أن التغيرات في العالم العربي تخضع اليوم تخضع إلى نوعين من العوامل الأساسية التي تؤثر فيها تأثيرا بالغا. أول هاته العوامل هي العوامل الداخلية بما هي الصانع الأول للحديث والمؤسس له. ثاني العوامل هي العوامل الخارجية التي تؤثر على تطور الأحداث في المشهد العربي إلى حدود معينة ومتفاوتة خاصة بعد نشأة الحدث وبعد انطلاقه. فالربيع العربي وما صاحبه من ثورات وهزات ارتدادية لا يزال صداها يتردد في أرجاء المنطقة لا يخرج في تشكّله وتطوره عن هذه القاعدة إذ يخضع إلى تأثير العامل الداخلي والخارجي بشكل متفاوت.
فمن ناحية أولى لا أحد يستطيع أن ينكر أن الربيع العربي كان ثورة شعبية صنعتها الجماهير بشكل تلقائي منذ الانفجار التونسي الكبير ثم انتقلت الحركة إلى كامل المجال العربي في شكل عدوى ثورية واجتماعية لا تزال تتفاعل إلى اليوم. بناء عليه وباعتبار المنطقة العربية كلا حضاريا واحدا فإن الثورات الشعبية كانت فعلا داخليا بالدرجة الأولى وبشكل يكاد يكون مطلقا.
إن ما يتردد اليوم على منصات إعلام الاستبداد العائد بقوة إلى الساحة من أن الثورات مؤامرة على الأمة وعلى شعوبها وأنظمتها ليس إلا سعيا إلى شيطنة الثورات من أجل تبرير قمعها والقضاء عليها. فالقول بالمؤامرة وبالمشاريع الأجنبية مثل نظرية الفوضى الخلاقة وغيرها من النظريات التي ازدهرت بعد نجاح الانقلابات وخاصة الانقلاب المصري إنما تمثل في الحقيقة خطابا ذرائعيا هدفه تأبيد الاستبداد. فالثورات كانت لحظةَ اندلاعها فعلا ذاتيا بالدرجة الأولى ولم تكن أبدا فعلا خارجيا سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
لكن من ناحية أخرى لا يمكن إنكار دور العوامل الخارجية في ما حدث وهو في نظرنا دور مركزي لكنه لم يكن كذلك لحظة اندلاع الثورات لكنه تدّخل عند تقدمها وخاصة عندما تحولت إلى حركات مسلحة بعد أن لجأ النظام الاستبدادي إلى السلاح مع الثورتين الليبية والسورية.
إن التأثير الخارجي لم يتشكل إلا في مسار الثورات لا في انطلاقتها وهو ما شهدناه عندما تدخلت القوات الدولية في ليبيا لمنع الهجوم على بنغازي ساعة حاول القذافي قصف المدينة جوا. ظهر التدخل الخارجي كذلك خلال الثورة المصرية عندما كان قادة العسكر يتقاطرون على البيت الأبيض وعلى دوائر القرار الأمريكي من أجل إعادة المنظومة العسكرية إلى هرم السلطة خلال الثورة وقبل سقوط النظام.
لكن الفواعل الخارجية لا تقتصر على القوى الأجنبية بل تتجلى أيضا في القوى والفواعل العربية التي تقع خارج مجال الربيع أو في جواره المباشر. أي أن الدول العربية التي لم تشملها الثورات ولم تهدد أنظمتها بالسقوط تمثل هي الأخرى مجالا خارجيا بالنسبة للفعل الثوري. إن الدول العربية والإسلامية التي دعمت الثورات المضادة وأعادت الدولة العميقة إلى المشهد سواء في مصر أو تونس وخاصة منها الدول الخليجية إنما تمثل فعلا خارجيا بالنسبة للمنجز الثوري الذي عبّر عنه سقوط واجهة النظام الاستبدادي في البلدين.
هذا التأثير كان حاسما في تحديد مصير الثورات وفي إفشالها وتحويلها مطالبها بالحرية والعدالة الاجتماعية إلى حقول للموت والفوضى والتدخل الخارجي. ما كان للثورات المضادة أن تنجح وما كان للربيع العربي أن يتحول إلى خريف للاستبداد لولا الأموال التي صُرفت عربيا من أجل ذلك. لكن حتى وإن اعتبرنا أن هذه الدول الداعمة للثورات المضادة واقعة خارج مساحة الربيع العربي فإنها تبقى رغم ذلك مجالا داخليا بالنسبة للمجال العربي أي أننا لم نخرج عن الرقعة العربية ولم نغادرها.
هذا الإقرار هو الذي يجعل دورَ العوامل الخارجية ودور القوى الدولية في إفشال الربيع العربي دورا ثانويا مقارنة بالأدوار العربية. بناء عليه فإن كل قول يُرجع الفوضى التي نرى اليوم إلى الخارج وإلى القوى الخارجية إنما هو قول لا يستقيم تحليليا إذا ما حدّدنا بدقة دور كل عنصر من العناصر. صحيح أن القوى الأجنبية سواء منها الأمريكية أو الروسية أو الصهيونية أو الايرانية أو حتى التركية موجودة على الأرض العربية لكنها لم تأت بنفسها وإنما استدعتها القوى الداخلية وسهل لها النظام الاستبدادي أن تجد موطئ قدم في مجال الثورات وأن تتحول إلى فاعل أساسي فيه. لم يدخل الجيش الروسي في سوريا إلا بطلب من النظام الدموي هناك وهو الذي عجّل بطلب المساعدة من أجل إنقاذ نفسه من السقوط مدعوما بالمال الخليجي المساند للثورات المضادة والداعم لها.
إن الإمعان في التأكيد على أن العوامل الخارجية كانت عوامل حاسمة في اندلاع الثورات العربية أو في إفشالها إنما يمثل تضليلا صريحا هدفه صرف النظر عن مكمن الداء وهو كذلك محاولة لصرف الأنظار عن الجوهر الأزمة العربية بما أن أزمة سياسية داخلية أساسا تضاف إليها أزمة نخب سياسية فشلت في تحويل حلم شعوبها إلى واقع ملموس.