قضايا وآراء

مجتمع الخمسة عشر مليونا

1300x600
طبقا لإحصاءات السكان حتى 2015؛ فقط هناك 70 دولة من حوالي مئتي دولة على مستوى العالم من يزيد عدد سكانها عن 15 مليون نسمة، وفي غالبية هذه الدول، المتقدمة منها وغير ذلك؛ أو اختر أي معيار تشاء؛ فيها كل مظاهر "التقدم"، فالخمسة عشر مليونا قادرون على ملء كل ما يمكن أن يُفعَل في الحياة؛ بداية من الحرب ونهاية بالرقص في الشوارع.

كما أنه لا توجد قاعدة أو علاقة بين عدد السكان والمساحة التي تمتلكها الدولة، أي أن كثافة السكان ليس لها علاقة بممارسة هذه الأنشطة الحياتية المتعددة، فدول شديدة الكثافة السكانية كسنغافورة ودول لا تملك مثل هذه الكثافة كفنلندا نرى فيهما تلك المظاهر، وهما تقريبا بنفس عدد السكان مع فارق هائل في المساحة. وعدد سكان كل منهما حوالي ستة ملايين.

ما نود ذكره أن خمسة عشر مليون نسمة وأقل من ذلك بكثير يمكنهم ملء كل ما يتعلق بالمظاهر والأنشطة الحياتية، ويعتمد ذلك فقط على القدرة النفسية والمالية للقيام بالنشاط، فكل من تراهم بالمتاجر الكبرى وعلى شواطئ مصر كلها وساكني المنتجعات والكومباوند والكثير من البروليتاريا التابعة ينتمون إلى هؤلاء الملايين الخمسة عشر، كما أن هناك نقطة أخرى مفصلية وهي صناعة الصورة، فمن يستطيع أن يدفع إلى رأسك ألف صورة من ألف مصدر يستطيع أن يقنعك أن هذه هي الحقيقة مهما كانت كاذبة، فالخمسة عشرة مليونا يملؤون الشوارع ويفعلون كل شيء وآلاف الصور المنشورة لا تكذب.

والحقيقة أن هناك صعوبة في التفرقة بين صور الخمسة عشر مليونا والمئة مليون، فالزحام هو سيد المشهد في الصورتين وخاصة عندما تركز على نقاط مزدحمة بعينها؛ ميدان أو ملعب كبير لكرة القدم أو حتى شارع مزدحم للغاية، كما أن غزو الصور الهائل يجعل العقل يستنتج الزحام الكبير ويبقى لصاحب الصور الكثيرة أن يضع الرقم الذي يشاء ويعلن في ميكروفونه عالي الصوت ما يشاء.

مصر هي بلد الخمسة عشر مليونا أو ربما أقل، فالباقي غير موجود في ذهن الجميع حتى ربما بعض من يتحدث باسمهم لا يرى غير هؤلاء الخمسة عشر مليونا، وهذه إحدى النقاط الكارثية في مجمل المعارضة المصرية أو حتى من يتحدثون بخطاب ثوري، وهذا قد يحتاج لتفسير.

لا يوجد نظام استبدادي حاكم في نطاق ما أعرفه لم يصنع له تابعين من كافة طبقات المجتمع وهي ما يستخدمها في إظهار الامتداد الطبيعي له داخل هذه الطبقات، هؤلاء يصنعون صورة مكتملة للمجتمع، وهذا المجتمع هو مجتمع الخمسة عشر مليونا وباستخدام الصورة يتحول إلى كامل المجتمع، فالصورة والقطاع الطولي تسهل ذلك الخداع.

وإذا أخذنا مشهد المباراة الأخيرة للمنتخب المصري يمكننا تطبيق هذا الفرض، فكل من كان في الملعب لاعبين وأمن وجماهير هم ممثلو الطبقة البرجوازية المصرية بكل ما تحمل من تناقضات بنيوية، ونجد الفقراء والبائسين يملؤون المقاهي والشوارع القادرين على دفع عشرة جنيهات على الأقل في ساعتين لمشاهدة مباراة، ونجد الطبقة الحاكمة تدير المشهد من أعلى لتضخم هذا الحدث بحجم الصور الهائل ليسقط هؤلاء الملايين الخمسة عشر على كل مصر.

قد يكون ذلك مفهوما؛ فهذا طابع النظام المستبد، أما غير المفهوم هو الصراخ العالي سبا وشتما في شعب مصر؛ أو تهنئة ودعما لشعب مصر للفوز بالمباراة من جانب قطاعات تنتمي للثورة؛ وكأنهم أيضا لا يرون غير مجتمع الخمسة عشر مليونا أو على الأقل خدعتهم آلاف الصور وأسقطوها كما يريد النظام المستبد تماما على كل المجتمع المصري، أو أن تكون الكارثة أنهم فعلا ينتمون فكرا للخمسة عشر مليونا.

هذا التصرف غير المفهوم من قطاعات ليست قليلة من القطاع الثوري؛ وهو جزء معتبر من القطاعات الموجودة على الجانب الآخر من الخط الطولي؛ يظهر أنهم نسوا حتى وجودهم هم أنفسهم، وبدأوا في لعن كل الشعب، بينما وجدنا حالة تحتاج لتفسير عندما تم إصدار تصريح يشد من أزر كل الشعب في المواجهة المرتقبة، وأيضا نسوا أنهم موجودون وأن هناك الملايين ممن ينتمون إلى ما يدافعون عنه يعانون من القهر والظلم. فلا مشكلة حتى إن كان عدد كبير أو صغير ممن يؤمنون فعلا بالثورة قد تفاعل مع المباراة من غير الخمسة عشر مليونا وتم استدعاؤه لذلك الحدث، فليس بالضرورة أن يكون كل المؤمنين بالثورة والتغيير الحقيقي جزءا من كتلتها الصلبة، ولكن المشكلة في القطاع الصلب من الثورة الذي لا يستطيع رؤية حتى نفسه. 

بالتأكيد ليس الأمر بهذه الصورة الثنائية الحادة عندما نحاول تفسير مشهد المباراة، فلا يمكننا تصور أن يتوقف كل ما يشعر الفرد أنه ممتع لأننا في انقلاب عسكري حتى لو رأي البعض أن كرة القدم شيء تافه لا معنى له، فلا يجب أن نسقط أفكارنا على أذهان الغير حتى لو كانت صحيحة، فالكثير ممن ينتمون لمعسكر الثورة أو حتى الرفض الحقيقي للانقلاب العسكري لا زالت حياتهم وثقافتهم القديمة مستمرة. 

إن الهدف من هذه الكلمات ليس رفع شأن ما حدث أو تسفيهه، ولكنه محاولة لتوضيح الصورة الحقيقية التي اختفت خلف آلاف الصور التي تندفع بلا رحمة إلى أذهاننا لتنتج صورة مخادعة، ولابد من إدراكها حتى لا نسقط في فخ تلك الصورة. 

إن مصر هو مجتمع للخمسة عشر مليونا والباقي يتم استدعاؤه بأدوات متعددة وعلى رأسها كرة القدم لتحقيق هدف ما، ويجب العلم أن وضع كل شعب مصر في مربع واحد هو أحد الأدوات التي تعرض أي تحرك محتمل أو موجة ثورية للتراجع، فكيف أن يضحي "الأبطال" من أجل شعب لا يستحق، إن استمرار المحاولات المتعددة لصناعة صورة ذهنية أن الشعب المصري لا يستحق أي تضحية هو استمرار "بوعي أو بدون" للتعامل مع الخمسة عشر مليونا فقط والتخلي عن باقي الشعب الذي يفترض أننا جزء منه، أو محاولة للانسحاب من المعركة بإسقاطات نفسية تبريرية.

في نهائي كأس العالم في أوروجواي عام 1980 عندما كانت الجماهير في ملعب المباراة بحضور الحاكم العسكري رددت الجماهير بصوت هادر كلمات النشيد الوطني الذي يلعن كل مستبد ويقسم أن الجميع سيموت من أجل الحرية، الجماهير قامت بما تستطيع بالشكل الذي تراه صحيحا ومجديا.

إن الجماهير لا تعامل باستعداء ولا تعامل باحتقار وخاصة تلك الجماهير التي تنتمي إليك، فلا يمكن تصور شعب يقاوم طوال الوقت ولا يوجد شعب يقاوم كله أبدا، ودائما ما ستجد نموذج الخمسة عشر مليونا – أكثر أو أقل – ودائما ما ستجد من يحملون آلام شعوبهم ولا يمكنهم الاستمتاع بأي شيء إلا في أجواء حرة، ولكن عليهم أن يدركوا أن الأغلبية المؤمنة بهم ربما لا تتحرج من الاستمتاع بمباراة كرة قدم، ولا ينبغي أن تشعرهم بالحرج حتى لو كنت مؤمنا أنها أحد أدوات التخدير كما أؤمن أنا تماما. 

فرفقا بشعب مصر الذي يعيش معنا في نفس المساحة في جانب الخط الطولي ويعاني كما لم يعاني أحد، ورفقا أيضا بالكتلة الصلبة من التصريحات المستفزة، ونتذكر أن الثورة تقوم بها قلة نشطة مؤمنة لا تتراجع تتبعها الجماهير عندما تثق بها لا عندما تشعر بالدونية أمامها، وأعني بالجماهير من هم خارج مجتمع الخمسة عشر مليونا.