تتسارع وتيرة الفعل السياسي العربي الرسمي بشكل غير مسبوق اليوم ويتجلى ذلك في صورة التحالفات الجديدة الناشئة، وهي تحالفات وتقاربات تتناقض كليا مع المنطق السياسي الذي كان سائدا قبل الربيع العربي وثوراته العظيمة.
اليوم تتقارب السعودية مع أعداء الأمس مع إيران ومع إسرائيل مثلا، وهو أمر كان يعد ضربا من المستحيل بالأمس القريب. ولو كان ذلك على مستوى الخطاب فحسب. حصار قطر ومعاداة تركيا هي خطوط جديدة أيضا ترسم الاتجاه الجديد للسياسة العربية الرسمية التي تتفاعل أطوراها بشكل لافت.
الثابت الذي لا غبار عليه في خضم هذا الكمّ الهائل من المعطيات ومن التداعيات التي لا تتوقف هو موقع ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس في تفعيل أو تسريع التداعيات التي نرى. صحيح أن الثورات لم تكن المؤسس الأساسي لأحداث اليوم لأن هذه الأحداث سابقة عليها لكنها حددت وجهتها وسرّعت من وتيرة محاورها الداخلية. بمعنى أن الربيع العربي خلق سياقا جديدا سيحدد طبيعة الأحداث ووجهتها النهائية.
السؤال هنا هو التالي: ما هو موقع الأحداث اليوم من نقطة الانطلاق التي دشنها الإعصار التونسي الكبير؟
للإجابة عن السؤال لا بد من التذكير بالفعل المباشر والأول للثورات وهو المتمثل أساسا في الإطاحة بواجهة النظام العربي أي برأس الاستبداد في أكثر من دولة عربية واحدة. الفعل المباشر الثاني هو إثارة الثورات المضادة التي نجحت في استعادة جزء كبير من مجالها في أكبر الدول العربية التي ضربها الربيع وهي مصر بعد الانقلاب الدامي للعسكر هناك والإطاحة بالتجربة المدنية في الحكم.
أما أهم أفعال الربيع العربي فهي إعادة الفعل الشعبي إلى صدارة الفعل الحضاري بمعنى أن التعويل على السبات الطويل للجماهير العربية أصبح جزءا من تاريخ القدرة الاستبدادية العربية ومن ماضيها.
صحيح أيضا أن هذا الفعل هو فعل غير منظم ولا منتظم بمعنى أنه فعل انفعالي لم تيسر له الظروف التاريخية والاجتماعية نخبة سياسية قادرة على تحويل الفعل الشعبي غير المنظم إلى فعل سياسي وحضاري بناء.
هذا الخلل الناجم عن عجز النخب العربية السياسية عن تحويل الفعل الشعبي الكبير إلى إنجاز حضاري هو الذي مكّن الثورة المضادة من النجاح ومن العودة من جديد لتصدر المشهد. بل إن الدولة العميقة في الدولة الاستبدادية العربية نجحت في صناعة أنساق من الفوضى وآليات لخلق حالات ممتدة من الدمار والخراب التي يعتبر تنظيم داعش الإرهابي أحد أبرز وجوهها.
اليوم تمثل التغيرات الكبيرة التي يعرفها الخليج العربي أحد آخر النتائج المباشرة لثورات الربيع لأن حصار قطر ليس إلا محاولة من النظام الشمولي العربي الذي تعبر عنه دول الحصار لأجل قطع كل خطوط الإمداد التي تسند تطلعات الشعوب في الحرية والعدالة الاجتماعية ولو بشكل إعلامي أو معنوي.
من جهة أخرى تهرول السياسة العربية الرسمية نحو التطبيع المباشر مع إيران ومع كل القوى الإمبراطورية الحاضرة أو المتمددة في المنطقة بما في ذلك إسرائيل سعيا منها إلى تحصين النظام فيها من الهزات الارتدادية المستقبلية المحتملة.
الانفتاح على الخارج ـ المعادي ـ ومحاصرة الداخل ـ الحليـف ـ تكشف وعي الدولة العربية الشمولية بأن الثورات لم تنته وأنها لم تقل كلمتها الأخيرة. بمعنى أن الفعل الذي خلقة الانفجار التونسي بكل امتداداته لا يزال في بدايته وهو ما أوجب على النظام الرسمي العربي تقديم كل هذه التنازلات الكبيرة والمهينة إقليميا ودوليا.
الجبهة في سوريا لا تزال مشتعلة وهي في ليبيا كذلك، لكنها مشتعلة أيضا في مصر وفي تونس وإن بشكل غير عسكري فعجز الدولة العميقة عن تطبيع الانقلابات الناعمة والمسلحة التي قادتها هو الذي يكشف أن الحركة التي خلقتها ثورة تونس بدءا لا تزال في بدايتها.
من جهة أخرى يمثل التغيير الذي فرضته إرادة الشعوب مسرّعا للفعل السياسي العربي الذي نراه اليوم فنسائم الحرية التي تهب على المنطقة ورغم طابعها الدامي فإنها واحدة من الإكراهات التي فرضت فرضا على منظومة الاستبداد. يضاف إلى ذلك أن تعرية الفواعل على الأرض وكشف طبيعتها مثل تعرية شعار المقاومة والممانعة أو كشف دور الدولة الدينية الشمولية في الإطاحة بالثورات وفضح زيف التحالفات العربية القديمة هو الذي أجبر الممارسة السياسية العربية على مزيد كشف نفسها والصعود نحو السطح ومغادرة العمق الذي تسكنه منذ عقود.
إن أعظم مكاسب الثورات هو الكشف الكبير الذي تحقق للوعي القاعدي وهو الوعي الذي سيقود المرحلة المقبلة بعد نهاية بقايا النظام الشمولي العربي في شكله الديني أو العسكري وهو آخذ في التحلل والتخبط. الثورات العربية لم تنته بل هي تنجز اليوم أعظم أفعالها عبر خلق الفعل المضاد للدولة العربية العميقة وجرّه نحو السطح لكي تتمكن الجماهير العربية من مواجهته عاريا من كل مساحيق الاستبداد وإعلام العار الذي يغطيه.