يبدو وكأن كثيرًا من المشتغلين بالكتابة في مجال تحليل السياسات العربية، يعتقدون أن الرصانة تستوجب منح صنّاع تلك السياسات الكثير من الاحترام، أو المبالغة في تقدير أسبابهم التي تنبثق عنها تلك السياسات، أو افتراض وجود رؤى جيوإستراتيجية، أو قواعد سياسية وتقاليد مؤسسية راسخة يصدرون عنها ويستندون إليها.
ومع أن سلسلة الأحداث المستمرة منذ ستِّ سنوات تثبت هشاشة هذه الافتراضات، وتحيل إلى عوامل غاية في الضيق، أو غاية في الغموض، أو غاية في الاضطراب والضعف، تنبثق عنها سياسات بعض من الأنظمة الحاكمة العربية، إلا أن هؤلاء المحللين ما يزالون يُصرّون على هذا الوهم من الرصانة والذي يفضي إلى تحليلات مفكّكة، أو متناقضة إلى درجة مثيرة للسخرية.
(1) مقدمة نظريّة
بعد انقلاب 30 يونيو انكشفت الدولة المصرية أكثر من أي وقت مضى، وتعرّت أجهزتها ومؤسّساتها وأبانت عن حالة غير متصوّرة من الضعف والتردّي والاهتراء، ولاسيما تلك الأجهزة، كالجيش والمخابرات والقضاء، التي كانت تحظى باحترام عربيّ شعبي ونخبوي كبير يصعد بها إلى مستوى الأسطورة، إلا أن الشخصيات التي قدّمتها تلك الأجهزة لم تكن تنمّ عن الكفاءة أو القدرة على التفكير الاستراتيجي، أو الوعي بالأمن القومي، تلك الكلمة التي لها مفعول السحر في تضليل أمثال هؤلاء المحللين.
الشخصيات التي ظهرت من عمق تلك الأجهزة إلى سطحها، وفضلاً عن افتقارها إلى الكفاءة المهنيّة، فإنها تفتقر إلى الحسّ الأخلاقي، وتتسم بانتفاعية شخصية وكيدية رخيصة عاليتين، وهذا النوع من البشر طالما أنه يمتلك القوّة فإنه يستطيع فعل الكثير، وليس في ذلك أي دلالة على أي نوع من الكفاءة المحترمة، فالذين يمتلكون أدوات القوّة لأسباب تاريخية ويفتقرون للحسّ الأخلاقي يمكنهم تحقيق الانتصارات على الضعفاء لفترة طويلة من الزمن.
لكن ليست تلك هي الفكرة، وإنما الفكرة هنا، هي أنه ينبغي التخفيف من حجم الثقة في كفاءة تلك الأجهزة واستنادها إلى تقاليد محترمة أو وعي بالأمن القومي أو تصورات للعالم والفضاء الجيو إستراتيجي يُعتدّ بها، وإن كان حال هذه الأجهزة كذلك، فإنّه من المتوقع جدًّا أن تُصعّد للذروة من صناعة القرار والمسؤولية فيها شخصيات من جنسها، من جنس رداءتها وانحطاطها.
مثلاً، في السياسة المصرية، لم يتوقف الكثيرون، سوى خصوم عبد الفتاح السيسي المحليين والإقليميين، وعلى نحو ضعيف، عند سياساته الممعنة في خدمة الكيان الصهيوني، أو في تدمير ثروات مصر، أو تحطيم أمنها القومي، بما يفوق ما كان عليه الحال زمن مبارك، وبما لا تكفي حكاية تقديم أوراق الاعتماد لتفسيره.
حتى التفسير المستمر لسياسات بعض الأنظمة أو الشخصيات الطامحة إلى الحكم بتقديمها أوراق اعتمادها إلى الولايات المتحدة، لا يفسّر نفسه، أي لا يشرح لماذا تظلّ بعض الدول العربية مرهونة عضويًّا بالقرار الأمريكي، إلى درجة احتياج المتصارعين على الحكم فيها إلى تقديم أوراق اعتمادهم إلى النخب الأكثر صهينة في المؤسسة الأمريكية، بينما لا يبدو هذا حال كل دول الإقليم.
إن إيران مثلاً ليست في ذلك كما هو حال بعض الدول العربية، وليست كل الدول العربية تجد نفسها مضطرة لتقديم مقاربات لتصفية القضية الفلسطينية أو تحطيم مقاومتها.
إن كان النفوذ الأمريكي في تلك الدول إلى درجة أنه لا سبيل للوصول إلى الحكم فيها إلا بتقديم أوراق اعتماد مفرطة في فحشها، فنحن إزاء تقاليد وحيدة راسخة وهي انعدام الاستقلالية الوطنية، فإذا اجتمع هذا الارتهان الخالص بالفساد وضعف الكفاءة واهتراء الشخصيات القيادية وافتقارها للحسّ الأخلاقي، فمن غير المستبعد أن تصعد إلى السطح قيادات عليا ذات ارتباطات عميقة ومريبة بالقوى المعادية للأمّة إن الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني أو غيرها.
(2) أمثلة تطبيقية
مثلاً لو تفهمنا أن منطق الاضطرار والمناورة السياسية يحمل حماس في غزّة على مناورات أو تعبيرات دبلوماسية لا تبدو وكأنها تستند إلى مثل هذه الحقائق والاحتمالات، فمن غير المفهوم أن يكون هذا حال بعض الكتاب والمحلّلين المحسوبين عليها، الذين لا يظهرون فهمًا بأن السياسة المصرية تجاه غزّة، وسياسات خصوم حماس المحليين، وسياسات محمد دحلان، كلّها، لا يمكن أن تتجاوز الهامش الإسرائيلي المسموح به.
إنّ حصار غزّة من جهاتها كلّها إسرائيليٌّ، وإنّ من قام بدور أمنيّ لصالح "إسرائيل" في الصراع معها، لا يمكن أن يتحول إلى إصلاحي، لاسيما وأنه ظلّ مرتبطًا بالقوى الإقليمية الأكثر ارتباطًا بـ "إسرائيل"، وهذا لا ينفي الصراعات والتناقضات بين الأطراف التي تقترب من "إسرائيل" أو تستمد أسباب بقائها منها، ولكن "إسرائيل" لا يمكن أن تسمح بأن تمسّ تلك التناقضات بأمنها أو رؤيتها لقطاع غزّة أو أي شيء آخر غيره.
مرّة أخرى لا يصادر هذا التحليل حقّ حماس في غزّة في المناورة، ولا ينفي عنها علمها وإدراكها بما يستند إليه، ولكنه يستغرب أداء بعض من كتابها المحسوبين عليها، الذين يغفلون حقيقة العامل الإسرائيليّ المهيمن على كل العوامل المحلية والإقليمية، والذين لا يجدون غضاضة في الانقلاب هجاءً ومديحًا لخصوم حماس في اليوم الواحد بما لا ينمّ عن استناد إلى وعي ثابت بحقائق وطبائع الفاعلين في الإقليم وفي الموضوع الفلسطيني.
لذلك بدا سلوك نظام السيسي صادمًا لمثل هؤلاء وهو يمعن في تشديد الحصار، وفي إذلال الفلسطينيين على المعبر، وفي اعتقال بعضهم، وفي منع قوافل إغاثة عربية من دخول القطاع. تكفي التجربة مع السيسي للحيلولة دون الخفّة التي تبشّر به بطلاً كان قد تلبّس العلاقة معه سوء فهم. إن الثقة لا يمكن منحها لمثل هذا الشخص سلفًا، وما لم يُدفع ثمن الثقة مقدّمًا فإنها لا تعدو أن تكون خِفّة معيبة.
إن مثالاً آخر سوى مصر، وهو دولة الإمارات العربية المتحدة، بقيادة إمارة أبو ظبي، يعيد السؤال مجددًا عن سرّ سياساتها التي لا يمكن تفسيرها فقط بمخاوفها من الإسلاميين والثورات العربية، فهذه المخاوف مبالغ فيها، بل لعلنا لا نبالغ بدورنا إن قلنا إن عداءها المبالغ فيه للإسلاميين ولعملية التحول في المنطقة هو الذي يجرّ إليها ما تخشاه، والأيام كفيلة بفحص ذلك.
إن بناء اللوبيات داخل الولايات المتحدة بالتربيط مع النخب الأكثر صهينة فيها، ودفع سياسات تصفوية للقضية الفلسطينية، والذهاب إلى أبعد مدى في دعم شخصيات عربية مشبوهة، أو في تحطيم الإسلاميين والحراكات الجماهيرية، حتى لو في فضاءات جغرافية لا تمسّ الإمارات وما يمكن اعتباره عمقها الاستراتيجي؛ لا يمكن تفسيره بالخوف من التغيير الذي قد يحمله الإسلاميون أو الثورات العربية، أو قد يفتحه النظام الاقتصادي الإماراتي وطبيعة الاجتماع داخل الإمارات.
في التسريبات الأخيرة للسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، يتحدث المسؤول الأمريكي المحافظ السابق إليوت أبرامز عن الإمبريالية الإماراتية، قائلاً إن هذا الصعود لا بدّ منه طالما أن أميركا اختارت الانسحاب وإن مؤقتًا. يؤيده العتيبة الذي يؤكد على الفكرة نفسها قائلاً: "كنا على قدر التحدي. بكل صدق لم يكن هناك الكثير من الخيارات، ونحن صعدنا فقط بعد أن اختار بلدك التنحي".
يتحدث العتيبة وكأن الإمارات في مهمّة أمريكية، بل في مهمّة لصالح المحافظين الجدد والقوى اليمينية فيها، حتى وأمريكا تتراجع وتنسحب! لماذا حينما تتقدم الإمارات تفعل ذلك لصالح هذه القوى المعادية للأمة حتى وهذه القوى في طور التراجع؟! ألا يمكن أن تستغل الإمارات المساحة التي تنسحب منها أمريكا لمصلحة أخرى غير مصلحة المنسحبين؟ ألا يمكن تصوّر مصلحة إماراتية مستقلة عن تلك القوى؟! هل يمكن تفسير هذا السلوك تقليديًّا وبعوامل ظاهرة؟! لا يبدو لي ذلك.