يحزنني أن اقرأ أو أن أستمع لأناس حسبناهم دعاة مبادئ ودعاة حق؛ وهم يتحدثون ويملأون الشاشات وصفحات التواصل الاجتماعي والصحف بمقولات لا يتعدى منطقها العبث الهزل.
يسحرك أحدهم بحديث طويل عن مجد الماضي وكفاحه المستميت ضد الظلم، حتى يصل للحظة الحاسمة التي تطلب منه اتخاذ موقف أو التلفظ بما يطابق حديثه الفضفاض عن المبادئ، فإذا به يخرج عن النص ويبدأ في طرح استنتاجات لا تطابق أي مما ذكر من المقدمات.
تذكرت ذلك عندما اُستدعيت للتعقيب على مبادرة لسياسي سابق؛ فحواها ضرورة الانخراط في تمثيلية
انتخابات 2018، حيث يصور لك صاحب المبادرة أنها ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، مما يجعلك تشك في إدراكك للأمور أو في قدرتك على فهم مفردات اللغة التي يبعثرها يمينا ويسارا، مدللا بها تارة وبعكسها تارة أخرى، مستنتجا ما لاعلاقة له بالقول. والحق يقال؛ إنه ليس الأوحد وليس الأول ولن يكون الأخير الذي يحدثنا بذلك العبث.
ولا عجب من ذلك، فالهدف من كل ذلك ليس إلا إقناع المؤمنين بالثورة، بضرورة التخلي عنها، فمنطق
الثورة صحيح ولكنه غير عملي أو غير مناسب لمناخ
مصر، ولا يوافق هوى أصحاب الثروة أو أصحاب القوة!
ويتناسى أصحاب ذلك المنطق أن الثورة هي عمل موجه ضد هؤلاء، ولذا فمن الطبيعي أن لا تروق هواهم وهوى القوى العظمى، الإمارات وأبناء سعود وحمامة السلام كيانهم "بني إسرائيل"، ولذا فلا مانع من أن تحصل الثورة على راحة أو أجازة وضع مدفوعة الأجر حتى تلتقط أنفاسها وتقوى على الصراع. وهذا ما نادى به مؤخرا من لصق التاريخ باسمه وادعى أنه مؤرخ، كما يدعي العديد أنهم ثوار أو سياسيون أو نشطاء، وكذلك زعماء.
ألا يذكرنا ذلك بدعوة العرب للهدنة في 1948، فالتقط الثوار أنفاسهم وأتاحوا للعقلاء التدخل لحل الأزمة، التي انتهت بضياع فلسطين!
والخوض في مقولات هؤلاء لن يصل بنا إلا لنتيجة واحدة: تثبيط الهمم، ونزع الكرامة ولي المبادئ بما يناسب أصحاب الفخامة ممولي الحملة، فحملة انتخابات 2018 هدفها الأسمى هو شرعنة نظام فاشي مفسد ومبدّد للثروات والمستقبل، وإلهاء الثوار عن ثورتهم.
وإذا تناسينا - جدلا - المُسَلمات والمبادئ الحقه، وأن هناك انقلابا وأن هناك شرعية مغيبة، ونحدثهم بمنطقهم بأن المناخ العام الذي استحدثه نظام الانقلاب لا يصلح لأي حديث عن انتخابات، نجد أنفسنا في مواجهة عبث من نوع آخر لا يقل عن سابقه، ألا وهو أنهم سيتحدون النظام وسيطالبون بلجنة محايدة للإشراف على الانتخابات. منطق عجيب، يتعمد أن يتناسى القضاء الفاسد والإعلام المَصير بمخابرات عائلة السيسي، والأمن محترف القمع والتنكيل والقتل والتزوير، يعود هؤلاء باختراع جديد، ويقولون سنطالب بضمانات دولية!
بفهم الوضع الحالي، لا يعني ذلك إلا أنهم سيطالبون مجتمعهم الدولي بجيش محايد ومخابرات محايدة وإعلام محايد وقضاة محايديين وأمن محايد. ألا يذكركم ذلك بمباريات الأهلي والزمالك التي أثرت على قدراتهم على التميز بين مباراة الكرة بحَكم محايد والمطالبة بدولة محايدة؟!
وعندما تجاريهم في مفهومهم، وتسألهم: ولو قبّل مجتمعهم الدولي تحقيق المستحيل، هل سيقبل نظام السيسي ذلك؟ يشعرالمبدع بالانتصار، ويؤكد أن في ذلك تحقيق الهدف، لأنه لو رفض السيسي طلبهم سينكشف أمام العالم!
نعم قصدت كلمة "مجتمعهم الدولي" وليس "المجتمع الدولي"، لأن المجتمع الدولي يدرك أن ما يحدث في المنطقة العربية ليس إلا مؤامرة محكمة هو شريك فيها لدحر إرادة الشعوب، وأن ما حدث من انقلاب وقتل وتعذيب وسجن واغتصاب لا مانع منه عند مجتمعهم، وكأن رفض السيسي للحَكَم الأجنبي طامة كبرى تفقد نظامه المصداقية!
الحقيقة الوحيدة التي تستنتج من ذلك العبث تتساوى وعبثهم، لقد فقد هؤلاء مصداقيتهم أمام الشعب العربي مثلهم مثل كل النخب التي خرجت تصفق للانقلاب وتتغنى بفضله على مصر وهو يغتصب ويقتل أبنائها وبناتها ويبيع ثرواتها ويدمر مستقبلها، الفارق بينكم وبين من صفّق للانقلاب في اليوم الأول أن هؤلاء قد اختصروا الطريق وباعوا ضمائرهم مقدما، وأنتم بقيتم طابور خامس يعبث في صفوف الثورة يثبط همتها تارة ويسحبها خارج حلبة الصراع تارة أخرى، حتى تضل الطريق وتتوه في السكة وتستيقظ على معاهدة شرعنة النظام، وقد وقعت وختمت بخاتم الثورة، بحكم ما كان.
لماذا إضاعة الجهد في حشد لطلب نظام فاشي أن يسمح بالرقابة على الانتخابات؟ لماذا لا نحشد جهودنا لمقاطعة تلك المهزلة المسماة "انتخابات"، ونُطلع العالم على رفضنا لذلك النظام وانتخاباته المزعومة؟
وللأسف، فإن هؤلاء يتناسون أن ذلك النظام لم يأتِ إلا ليدمر ما بقي من مصر وما بقي من الثورة العربية، وأنه ليس إلا عميلا رسميا للكيان وعملائه من حراس الآبار من عرب الخليج. إن الواقعية التي يدعوننا لها لا تتمثل في الطريق الذي يسلكونه، بل في الطريق الذي لا يسلكونه. إنهم يسيرون على طريق دانيال بايبس، صديق عرب كامب دافيد، الذي لا يعتقد أن السلام سيتحقق إلا إذا اعترف العرب بالهزيمة واستسلموا استسلام كامل.
إنني أدعو من يسعى لرئاسة مصر دون الثورة؛ ألا يضيع وقته ووقتنا، وأن يسجد لابن سلمان وابن زايد. وإن كانوا هم قد صدمهم قطار كامب دافيد وأزال جدار وهمهم المسمى الحاجز النفسي الذي مثل الطريق لتمليك المنطقة بالكامل للكيان، فنحن ما زلنا ندرك من هو العدو وما هو الطريق.
إنهم يمثلون الظلام الذي عدى على مصر ولم يزل بعد..
..عدى النهار والمغربية جيه بتتخفى ورا ضهرالشجر، وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر، وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها، يا هل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين، أبوا الغناوي المجروحين يقدر ينسيها الصباح أبو شمس بترش الحنين؟
أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار، لما يعدي على الدروب ويغني قدام كل دار.. رغم أنف عُباد الظلام.