قبل أكثر من عشر سنوات، وتحديدًا في نيسان/ إبريل 2007؛ كَتَبْتُ مقالة بعنوان "حماس العصية على التفتت والانشقاق"، جاءت تلك المقالة بعد توقيع اتفاقية مكة بين حماس وفتح، فقد تلقفَتْ –حينها- أوساط صحافية عربية ما زعمه الإعلام الإسرائيلي عن خلافات عميقة في حماس وصلت –بزعمه- حدّ التمرد.
بصرف النظر عن النفس المخابراتي في الإعلام الإسرائيلي، فإن تقاريره حينها اتسمت بالسخف والخفّة الشديدة، وكذلك ما بنته عليها تلك الأوساط الصحافية العربية والتي أضافت إلى استنادها للإعلام الإسرائيلي انطلاقها من تصورات انطباعية رائجة حول حماس، ولكنها غير دقيقة.
بعد هذه السنوات العشر؛ هل تغير الشيء الكثير؟!
من نافلة القول؛ إن حماس وحينما وقّعت اتفاقية مكة، كانت بالنسبة لما هي عليه الآن في حالة جيدة، فالحركة كانت ما تزال تشعر بنشوة الانتصار في الانتخابات التشريعية، وتعتقد بإمكانية تجاوز أزماتها الآخذة بالتشكّل؛ الحصار الاقتصادي على حكومتها، والمعضلة الأمنية التي فرضتها عليها السلطة القديمة الراسخة، والرفض الإقليمي والدولي، وغير ذلك.
كانت آمال الحركة مبنية على الخطأ نفسه الذي لم يُقدّر النتائج التي سوف تترتب على فوزها الكاسح في الانتخابات، وتشكيلها الحكومة، وقد استمرت تلك الأزمات في التعاظم والاستغلاق؛ فاتفاقية مكة أفضى إليها فوز حماس بالانتخابات بعدما واجهته فتح بالرفض العملي، والأزمات المستغلقة اليوم امتداد لذلك الفوز وما أدّى إليه كالحسم العسكري الذي حشر الحركة في قطاع غزة وفرض عليها إدارته بكل تبعات ذلك وحمولاته.
منذ ذلك الوقت تغيرت أشياء كثيرة، فنشوة الانتصار الانتخابي زالت، ولا يكاد يلمس لها المرء أثرًا، وأُقصيت الحركة عن المجال العام في الضفة الغربية، وفككت تنظيماتها فيها، ولم يزل عناصرها في الضفة يعانون صدمة الترويع وكسر آمالهم التي انفتحت لها كوّة من الانتخابات.
في غزّة، تعاظمت الحركة، وتمكنت من ملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب السلطة من مسؤولياتها بعد الحسم العسكري، وحتى انقلاب عبد الفتاح السيسي في يونيو 2013 ظلت موارد الحركة تُصبّ لصالح الوقائع المتشكلة في قطاع غزّة، وبالرغم من تراجع قدرة الحركة على التدبير المالي بعد خلافها مع إيران حول الموضوع السوري، إلا أنها بقيت قادرة على تسيير أمورها بشكل معقول حتى تدمير الأنفاق، وإنهاكها بالحصار المتصاعد.
بعد سلسلة من الحروب، شعر فيها الغزّيون أنهم وحدهم، واستحكام الحصار على القطاع، وهو الحصار المتصاعد في شراسته منذ أربع سنوات، والذي بلغ حدًّا من القسوة غير متصور مع إجراءات السلطة الفلسطينية الأخيرة المستهدفة لقطاع غزّة بالعقاب، واستغراق حركة حماس في القطاع في تدبير الشأن اليومي للناس والبحث عن أي حل للأزمات الإنسانية المتتالية؛ أخذت أولويات جديدة تتشكل لعموم القطاع، ولحركة حماس هناك.
ومع أن حماس في غزة تمكنت من تعظيم قوتها العسكرية، وكشفت عن أداء قتالي ملهم ومثير للإعجاب في حرب العام 2014، إلا أن نتائج الحصار، وعدم قدرة الحركة على حل أي من أزماته، فضلاً عن فشلها في تنفيذ شعارها الانتخابي "يد تبني ويد تقاوم"، بالإضافة لأخطاء متراكمة في المسلكية العامة حكومية وتنظيمية؛ قد مسّ بشعبيتها بشكل كبير داخل قطاع غزة، فضلاً عن كون صورتها باتت مركّبة لدى الجمهور الفلسطيني الذي لم يعد قادرًا على رؤيتها حركة مقاومة فحسب.
في الأساس خلق الاحتلال ظروفًا استعمارية متباينة بين الضفة الغربية وغزّة، وفي الأصل امتلك لكل منهما رؤية مختلفة، ومع تباين السياسات الفلسطينية الحاكمة في كل من الضفة وغزّة؛ أخذت فجوة اختلاف الظروف تتسع ما بين المنطقتين، وهو ما عظّم من شعور الغزّيين بوحدتهم ومعاناتهم، وجعل لقطاع غزّة أولويات خاصّة، بل قضية خاصّة، بدأ يتضح أن الاحتلال وقوى متعددة محلية وإقليمية تدفع بها إلى أقصاها لفصل القطاع ضمن رؤية تزداد تبلورًا حول الحلول الممكنة لتصفية القضية الفلسطينية.
في خارج فلسطين، لا يبدو أن قيادة حماس لذلك الفرع، قد حافظت على مكانته وقدرته على إحداث التوازن المطلوب بين مختلف فروع الحركة، فضلاً عن أنها لم تحقق نجاحات واضحة في إعادة حشد الفلسطينيين في الشتات وتأطيرهم بما يعيد لهم مكانتهم الوطنية والنضالية، وكل ذلك نتيجة جملة من العوامل الموضوعية، المتعلقة بتطورات الأحداث في المنطقة وكيفية تعاملت حماس معها، والذاتية المتعلقة بإدارة الشأن الداخلي لفرع الخارج وللحركة عمومًا، وهو ما انتهى بإضعاف فرع الخارج إلى حدّ كبير.
وإذن فالحركة لا ذاتيًّا ولا موضوعيًّا؛ هي ما كانت عليه بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي، وأزماتها اليوم أكثر استحكامًا وتعقيدًا، وقد اتضحت بعد تفاهمات فرعها في غزة مع محمد دحلان -وهي التفاهمات التي قيل إنها جرت قبل أي قدر من التشاور والتفاهم مع بقية فروع الحركة، بمعنى أن الأوليات الخاصة لقطاع غزّة هي التي حكمت الأمر برمته- فقد فشا النقاش العلني بين عناصر وكوادر الحركة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بما لا يخلو من البعد المناطقي.
وإذا كانت قيادة حماس في غزة قد ذهبت منفردة لحل المشكلات التي تباشرها لحظة بلحظة في قطاع غزّة، فإن عناصر وكوادر الحركة في الضفة، لا قيادتهم الرسمية، بدأت أصوات منهم تتحدث عن ضرورة البحث عن حلول خاصة بأوضاعهم في الضفة، وفرع الخارج هو بالتأكيد غير سعيد للآلية التي أهملته في إدارة التفاهمات مع دحلان؛ وذلك لا يعني إلا أن كل فرع للحركة بات مرهونًا لظروفه الخاصة، والحركة كلّها تبدو وكأنها مسلّمة بذلك، وهذا ليس حال حركة واحدة تفكّر بعقل واحد.
لم تتغير حماس وحدها، بل ثمة ظروف أخرى تغيرت غيّرت من الناس من بعد اتساع المساحات التي تتيحها التقنية للناس للتعبير عن أنفسهم. ومع الانتكاسة التي تعانيها الحركة، والانكسار الذي عانته الثورات العربية، وما آل إليه ذلك من إحباط؛ انطبعت المواقف والآراء بالتمرد والحيرة وانعدام اليقين وتراجع الثقة.
ليس من وظيفة هذه المقالة مناقشة أوضاع كل فرع من فروع الحركة؛ والحوادث والنقاشات الكثيرة التي استجدت أخيرًا، إذ لا تطيق مساحتها ذلك، كما ليس من وظيفتها تحديد نسبة مسؤولية كل فرع عمّا آلت إليه الأمور، ولكن المسؤولية عامّة حتى لو كانت متباينة بين تلك الفروع.
وهذا لا يعني أن حماس قد دخلت في احتمالات التفتت أو الانشقاق، ولكن يعني أن الاتكاء على تجربة الحركة التاريخية الطويلة في هذا الموضوع لم يعد كافيًا، ويعني أن تغير الحركة وتغير ظروفها وتوازناتها الداخلية يستدعي آليات وأدوات أخرى لمواجهة احتمالات من هذا النوع، لاسيما وأن الدفع لتعزيز الظروف المتباينة بين الفلسطينيين وما يستتبعه من خلق قضايا منفصلة على حساب القضية العامة يجري بسرعة عجولة دون أن تملك الحركة أي أفكار عملية لمواجهته.