"ما أعرفه حقًّا هو أن تاريخ العالم كان دائمًا تاريخ الضعفاء يقاتلون الأقوياء" غسان كنفاني
قبل أقل من عام، قامت صفحة بوابة اللاجئين الفلسطينيين على موقع فيسبوك، بنشر وترجمة مقابلة قديمة أجراها مع غسان كنفاني في بيروت الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون. المقابلة التي عثر عليها ابن الصحافي وشعر بأهميتها، يُرجِّح المترجمون أنها أجريت في العام 1970، وهذا ممكن جدًّا بالنظر إلى أسئلة الصحافي عما يمكن أن يكون أحداث أيلول في الأردن، وخطف الطائرات، وطريقة غسان في الإجابة عن تلك الأسئلة.
تدور المقابلة القصيرة، أو ما وُجد منها على الأقل، حول أربعة محاور، هي المواجهات في الأردن بين الثورة الفلسطينية والحكومة الأردنية ورؤية غسان لهذه المواجهات ونتائجها، والموقف من أي محادثات "سلام" محتملة بين الفلسطينيين والعدو الإسرائيلي وما يتضمنه ذلك من فهم غسان لقتال الفلسطينيين وأهدافه، وتقسيم غسان للحكومات العربية ما بين رجعية فاشية متصلة بالإمبريالية وحكومات عسكرية برجوازية- صغيرة، وخطف الطائرات.
بدون أي مبالغات فلسطينية معتادة في وصف كلام الرجال الذين من صنف غسان كنفاني، يمكن القول إنه بكلماته القليلة جدًّا، كان معلمًا فلسطينيًّا عابرًا للأجيال، يَعرف جيدًا ما يريد، ويحسن جيدًا، وبأقل كلمات، التعبير عمّا يريد، وكان أقوى من منطق الهزيمة الذي يتزين بثوب العقلانية، ذلك المنطق الذي خضع له كثير من الثوار والمقاتلين تَقِيّة أو هزيمة أو ضعفًا أو استدراجًا. كان منطق المقاتل الحكيم، الفدائي المتفاني، كاسحًا، لا يعرف الخوف ولا التردد ولا المراجعات الخاطئة.
باختصار ومنذ مفتتح المقابلة، وضع غسان قتال الفلسطينيين في مكانه الصحيح من حركة التاريخ وفلسفة الوجود البشري، وسواء كان هذا الوعي الدقيق الذي يحافظ على القتال والثورة والتمرد، انبثق من إيديولوجية غسان الماركسية، أم من وعي ذاتي مجرد، فإنه صحيح بلا شك، أي ديالكتيك قتال الضعفاء للأقوياء، فالتاريخ كله، يمكن اختصاره، بأنه ذلك القتال.
لست أرغب في إعادة تقديم كلام غسان من موقع إسلامي، ولكنّ التاريخ كما أقرؤه في القرآن، وفي سير الأنبياء كما عرضها القرآن، هو تاريخ المواجهة بين الأقوياء الذين يستغلون الضعفاء، والضعفاء الذين يسعون للتخلص من هذا الاستغلال، تاريخ المواجهة بين المستكبرين والمستضعفين، وبين الظالمين والمظلومين.
في مثل هذه المواجهة لا يمكنك أن تكون من الظالمين، وإن كنت من المظلومين فلا يمكنك إلا أن تكون مقاتلاً، متمردًا، رافضًا للظلم. والإنجاز هو في هذه الخطوة الأولى، المركزية، والحاسمة، والثابتة، والتي ينبغي ألا تتغير مهما كانت مسارات المعركة على الأرض، فالقتال في صفوف المظلومين هو الإنجاز الثابت الأساسي المستمر، سواء أسفرت المعركة عن رفع الظلم أم لا.
يسأله الصحافي الأجنبي: "ماذا أنجزتم؟"
يجيبه غسان: "أمرًا واحدًا، هو أنه لدينا قضية نقاتل من أجلها، وهذا كثير جدًّا. الشعب الفلسطيني يفضّل الموت واقفًا على أن يخسر قضيته".
هذه الإجابة تصلح أيضًا للإجابة على الأسئلة التالية، التي تنفتح على ظروف القتال، من موت وبؤس ودمار وألم، إذ لا يمكن أبدًا، لمقاتل يقاتل الأقوياء الذين يستغلونه، إلا أن يتوقع الموت والبؤس والدمار والألم، وفي هذه الحالة لا يمكن لهذا المقاتل، إذا جَلَبَ قتالُه، أو جلب تحوُّله من موقع المظلوم الخانع إلى موقع المظلوم المتمرد؛ الموتَ والبؤسَ والدمارَ والألمَ؛ أن يتحول مشروعه إلى مجرّد التخلص من الموت والبؤس والدمار والألم ولو على حساب القضية الأصلية!
بكلمة أخرى، تنطلق أي مقاومة أو ثورة فلسطينية لتحرير فلسطين، وينجم عن ذلك موت ودمار وألم وحصار، وربما شعور مؤلم بالفرادة إن لم يكن هذا حال الفلسطينيين كلهم، في هذه الحالة لا يكون الإنجاز في القتال فقط، بل بالتحول إلى رافعة لبقية الذين لا يقاتلون، كما كان حال الثورة الفلسطينية في بلاد اللجوء، وكما هو الحال في هذه اللحظة بالنسبة لغزّة. الوعي بذلك يجب أن يظل ملازمًا للمقاتل، حتى وإن غلبت اللحظة وإكراهاتها عامّة الناس.
كان غسان مدركًا لخطورة أن تتحول القضية، من تحرير فلسطين، السبب الذي انطلق لأجله القتال، إلى "إزالة آثار العدوان"، أو فك الحصار، أو وقف القتل والدمار. نعم ضروري أن يسعى المقاتل قدر طاقته إلى أن يرمم الخسائر المادية التي يوقعها الأقوياء في ساحته، على ألا يتحول هذا السعي إلى القضية الوحيدة، أو الأساسية، وأن يكون دائمًا في سياق تعزيز صمود الناس لأجل استمرار القتال، أو استئنافه.
يذكّرنا انعكاس القضية في وعي المُستضعف المتمرد بما قاله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: "أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا"، والردّ دائمًا على انتكاس الوعي بالقول: كان يمكن أن تظلوا خانعين ولا تتمردوا، لم يحملكم أحد على التمرد، لكن وفضلاً عن الإنجاز بالسعي للتخلص من الظلم، فثمة احتمال قائم دائمًا لتحقيق الانتصار وإزاحة الظلم "عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ".
إن الحياة مجرد الحياة، مظلومًا خانعًا مسلوب الحق والإرادة، ليست أحسن من الموت والبؤس والدمار والألم. هكذا تكلم غسان كنفاني. والعدو دائمًا ما يريد بتوحش بطشه إلى أن يبلغ بالمقاتل، والناس الذين يقاتل في أوساطهم إلى هذه النتيجة، "إن حياتكم أذلاء مظلومين خانعين خير لكم من قتالكم"، فتتحول قضية الناس إلى رفع الحواجز ومنح التصاريح وحرية الحركة والعمل، كما فعل الاحتلال مع أهالي الضفة الغربية في الانتفاضة الثانية مثلاً، وكما بدا أن هذا الصحافي يحاول إقناع غسان كنفاني به، وكما يحاول العدو وحلفاؤه اليوم أن يفعلوا مع غزّة.
في السياق نفسه، يحرص غسان على التسميات الصحيحة وعلى الأسئلة الصحيحة، فالتسميات الخاطئة تقود إلى أسئلة خاطئة وبالضرورة يقود ذلك إلى نتائج مدمّرة. فقتال الشعب في سبيل حقه في المقاومة ليس حربًا أهلية، ولا صراعًا مجرّدًا دون توصيف صحيح للصراع، وصفها الصحيح أنها "حركة تحرر تقاتل لأجل العدالة"، والمحادثات بين الضعفاء والأقوياء، هي محادثات بين السيف والرقبة، وهي إذن محادثات استسلام لا سلام.
فالسؤال "لماذا لا نتحدث مع الإسرائيليين؟" الداعي للحوار مع العدو هو سؤال خاطئ بالتأكيد، وكذلك الدعوة لوقف القتال، لمجرد وقف القتال: "الناس عادة تقاتل من أجل شيء ما، وتتوقف عن القتال من أجل شيء ما. لكنك لا تستطيع أن تخبرني لماذا علينا أن نوقف القتال؟".
لم يكن غسان بتصحيحه للأسئلة وإعادة طرحها على محاوره يقوم بمناورة ذكية، ولكنه كان يعطي درسًا في قطع الطريق على الاستدراج، وفي الوعي الذي لا تهزمه مسارات المعركة على الأرض، وفي المقاتل العربي الأسمر الذي لا تسحره رطانة الغربي الأشقر!