ظل الشعراء العرب على مدى قرون، مسؤولين عن العلاقات العامة لقبائلهم وحكامهم، وكان معظمهم يستخدم موهبته في قول
الشعر للتكسب والارتزاق.
فعلها البحتري وأبو تمام وبشار بن برد وأبو نواس، وأشعرهم بما يشبه الإجماع أبو الطيب المتنبي، الذي رفع حاكم مصر كافور الإخشيدي إلى مرتبة الملائكة، على أمل أن يكافئه بأن يجعله واليا على إقليم ما، ولما لم يفعل، لعن خاشه، وسنسفيل جدوده، ولما قالوا له: عيب يا رجل. كيف تشتم شخصا تغزلت بخصاله وجميل فعاله؟
رد عليهم: وما كان ذلك مدحا له/ ولكنه كان هجو الورى (وبالعامية: دنيا بنت الذين اللي خلتني أمدح "أسود مشفره نصفه"، وأقول عنه أنه "بدر الدجى").
وما زال في عالم اليوم ذلك الصنف، الذي قال الشاعر السوداني مصطفى سند عن بيعهم لنتاج قرائحهم: شعرٌ يُكالُ/ ولا يزال يُقَلد الداعين فخر العمر/ يرشق في الرقاب سفاهةً/ حتى ويُنظم في الكلاب/ ما دامت الأثمان تدفع بالنضار وبالبرود وبالثياب.
ولكن شعراء هذه الفئة في عالم اليوم، أقل عددا من الصحفيين ماسحي الأجواخ، ولاعقي أحذية الجنرالات، وبديهي أن لسان من يلحس كعوب الأحذية، زفر لا ينضح إلا عفنا وقيحا، ولهذا لا أنصح صحفيا شريفا عفيفا أن يتلاسن مع فاجر.
مع تفجر الوعي السياسي للنخب العربية منذ ستينات القرن الماضي، ظهر شعراء فرسان على درجة عالية من البسالة، وصاروا سوط من لا صوت له، فجلدوا الطغاة بشعر كامل الدسم، وخال من الكولسترول، وعملوا على تعبئة الشعوب العربية، لتنهض وتكون صاحبة الكلمة في كل ما يهم معاشها ومآلات أحوالها.
فذاع صيت أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور انطلاقا من مصر، ثم خطف الأضواء شاعرا العراق الكبيران الجواهري والسياب، وأتى من بعدهم محمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل، وكثيرون لا تحضرني أسماؤهم.
وعلى كل حال، فلست بناقد للشعر، وإن كنت قارئا مدمنا له، ولست بصدد كتابة بحث في الشعر السياسي.
أذكر فرحتي بشعر
مظفر النواب، الذي كنا نتعاطاه سرا، لأن عقوبة حيازته كانت أقسى من عقوبة الاتجار في المخدرات، وكان أكثر ما يشدني إلى شعره بذاءته المفرطة، ولعل "إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم"، من أكثر ما قاله نظافة من حيث المفردات.
وما كان يعطي شعر مظفر طعما خاصا، أنه كان مسموعا، فقد امتنعت المطابع عن نشر أي ديوان له، ولهذا تفشى شعره عبر أشرطة التسجيل المعروفة بالكاسيت، وأذكر كيف كنا ننتقل بأشرطة أشعار النواب عبر الحدود وقد كتبنا على أغلفتها فيروز وأم كلثوم.
استهواني شعر
نزار قباني في فترة المراهقة، وكنا نتداول دواوينه الأولى بالطريقة ذاتها التي يتداول بها البعض مجلات من شاكلة "بلاي بوي"، فقد كانت قصائده كتالوجا يقدم تشريحا كاملا لجسم المرأة، وبحثنا عن نساء نزار في الشوارع والأسواق بمنطق "إني امرؤٌ مولع بالحسن أتبعه/ لا حظ لي منه إلا لذة النظر".
فرغم شحن تلك القصائد العنيف لغرائزنا، إلا أننا كنا جيلا يخاف "العيب"، ولا نمارس حتى التحرش بإطالة النظر إلى امرأة، ولما لم نجد من حولنا نساء بالمواصفات النزارية، مِنا من وقع في حب سعاد حسني أو هند رستم، أو حتى ماري منيب.
ولكن ومنذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967، صار نزار يكتب بين الحين والآخر، شعرا سياسيا قوي العبارة، وشديد الطلاقة والجسارة: مسافرون نحن في سفينة الأحزان/ قائدنا مرتزق/ وشيخنا قرصان/ مواطنون دونما وطن/ مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن/ مسافرون دون أوراق/ وموتى دونما كفن/ نحن بغايا العصر/ كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن/ نحن جواري القصر/ يرسلوننا من حجرة لحجرة/ من قبضة لقبضة/ من مالك لمالك/ ومن وثن إلى وثن (لعلك تحس بأنفاس مظفر النواب في هذه الكلمات).
ثم جاء
أحمد مطر، وصار عن جدارة صوت العرب، بشاعريته الفذة وإحساسه العميق الصادق بقضايا الناس من طنجة إلى المنامة، وتفوق مطر على نظرائه الأقدمين والمعاصرين، لكونه وجد القبول عند العوام، وقد تصادف شخصا يحسب أن أبي تمام زعيم سياسي لبناني، ولكنك لن تجد شخصا نصف أمِّيّ، لا يحفظ بيتا أو عشرين لأحمد مطر.
ولا أعرف -وأتكلم هنا عن حدود معرفتي فقط- من نافس أحمد مطر في الرواج العابر للحدود مثل عبد الرحمن الأبنودي، والشاعر الصعلوك أحمد فؤاد نجم، فقد أثبت كلاهما أن للغة العامية بلاغيات خاصة مذهلة، وقدرات هائلة على سبك مفردات وعبارات حبلى بالمعاني، بعيدا عن التقريرية والهتاف.
وكانت "رسائل حراجي القط"، هي المانفستو (البيان) الشعري للأبنودي، كما أن ديوان أحمد نجم الأول "يعيش أهل بلدي" والذي تم تهريبه إلى لبنان حيث طُبع، كان بشارة مولد شاعر ضخم جعل للكلام العادي، أشهى طعم.
والشاهد هو أننا أمة تتنفس شعرا، بل إن الدعاة وأئمة المساجد يستشهدون بالشعر، لتوصيل فكرة ما، لإدراكهم أن للشعر وقعا جميلا في النفوس، والشاهد أيضا هو أن الشعراء المعاصرين، الذين ظل الديناصورات يقللون من شأنهم، لأنهم من جماعة "التفعيلة والحداثة"، أقرب إلى هموم وقلوب الناس، من أسلافهم الشعراء الذين سبقوهم إلى النهل من وادي عبقر قبل قرون.
فشعراء العصر يدفعون "الثمن"، بينما كان الشعراء الأقدمون يقبضون "الثمن".