سوف تنشر هذه المقالة يوم انعقاد القمة العربية بالأردن، ولكنها تكتب قبل يوم من نشرها، ولذلك وبصرف النظر إن كان ثمة مبادرة عربية جديدة للسلام مع "إسرائيل" ستطرح في القمة العربية كما زعم أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، أم لا كما رد عليه صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فإن المؤكد، أن الدول العربية، وفي طليعتها مصر، تتبنى الرؤية الإسرائيلية اليمينية للحل، ولا تكتفي بالضغط على قيادة السلطة الفلسطينية للرضوخ لها، وإنما تسعى لتقديم تلك الرؤية، ويا للسخرية، باسم الفلسطينيين!
ولمن لا يعلم، فإن أحمد أبو الغيط زعم أن الفلسطينيين سيقدمون مبادرة في القمة العربية التي ستعقد بالأردن، ولكن قيادة السلطة عبر عدد من الشخصيات، أبرزها صائب عريقات، نفت ذلك، وهذا لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو أن بعض العرب، يمارسون على قيادة السلطة ضغوطا لتقديم تلك المبادرة باسمها! وأن هذه القيادة حتى تصريح صائب عريقات على الأقل، ما تزال رافضة.
وذلك يعني أيضا، أن عبد الفتاح السيسي استقبل الرئيس محمود عباس، في التاسع عشر من الشهر الجاري، لأجل الضغط عليه لتبني تلك المبادرة وتقديمها باسم الفلسطينيين، وذلك من بعد ما يشبه القطيعة بين الطرفين، وبعدما سبق لمصر وأن رحلت أواخر شباط/ فبراير الماضي، من مطار القاهرة، جبريل الرجوب، أمين سر لجنة فتح المركزية، وبعدما تأزمت العلاقة بين تيار حركة فتح الرسمي بقيادة عباس ونظام السيسي بسبب سعي الأخير لفرض مصالحة ما بين عباس ودحلان!
والحق أنه لا جديد في الأمر، فقد كتبت مقالتين هنا في صحيفة "عربي21" في الشهرين الماضيين، عن صفقة إقليمية يجري الإعداد لها، هي في الأساس رؤية اليمين الإسرائيلي الحاكم، والتي من الممكن أن تتبناها إدارة ترامب بتعديلات معينة، دون أن يعني هذا أنها رؤية جاهزة وناجزة.
لكن ما هو ناجز، ومتفق عليه إسرائيليّا في هذه الرؤية، هو جرّ العرب إلى مربع التطبيع، قبل حلّ القضية الفلسطينية، وعلى هذا الأساس يتحرك توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، وهو الأساس الذي لن يكون لدى إدارة ترامب أي مشكلة إزاءه بطبيعة الحال.
والحق أيضا، أن هذا الأمر ليس جديدا، ولا مستجدا مع إدارة ترامب، فلنتذكر فقط أنشطة التطبيع العلنية، شبه الرسمية، في الآونة الأخيرة، وقبل فوز ترامب، بين دول وشخصيات عربية، و"إسرائيل" التي يفترض أنها لا علاقات لها مع تلك الدول، ولنتذكر أيضا سيل التصريحات الإسرائيلية، من بعد الحرب الأخيرة على غزة، عن الحلف الإسرائيلي العربي في مواجهة الإرهاب (الذي يعني في الأساس حسب التصنيف الإسرائيلي المقاومة الفلسطينية)، أو في مواجهة إيران!
لا متسع، في هذه المقالة، لاستعراض ما ظهر وبدا، من علاقات إسرائيلية عربية غير مسبوقة، أقوى ما تكون، مع نظام عبد الفتاح السيسي، ولكن المهم، أن الإعداد للصفقة الإقليمية الشاملة بدأ مع العرب أنفسهم، قبل أن يكون مع إدارة ترامب، التي جاءت وقد قطع بعض العرب شوطا في الترتيب مع "إسرائيل"، لاسيما حينما بدا لهم أن إدارة أوباما تركتهم وحدهم في مهبّ الريح الإيرانية!
دعونا نضع حوادث كثيرة في السياق؛ اشتداد الهجمة على المسجد الأقصى منذ العام 2013، وانقلاب عبد الفتاح السيسي في العام نفسه، وظهور تسريبات من ذلك الوقت وحتى اللحظة حول مقترح دولة (غزة + أجزاء من سيناء)، ولقاءات التطبيع المطردة بين عرب رسميين أو شبه رسميين و"إسرائيل"، ومحاولات فرض محمد دحلان على الرئيس محمود عباس، وزيادة الوضوح الإسرائيلي بخصوص المقترحات المعدّة للضفة الغربية، ثم علنية الحديث –منذ مجيء ترامب- عن صفقة إقليمية تنجز تطبيعا عربيّا إسرائيليّا قبل حلّ القضية الفلسطينية، وأخيرا محاولة تقديم مبادرة جديدة باسم الفلسطينيين هي بالضرورة أوطأ من المبادرة العربية.
المبادرة الجديدة قد تتضمن مباشرة أفكارا كلية تنزل عن السقف الذي تتمسك به القيادة الفلسطينية الرسمية، بمعنى أنها قد تحوي اعترافا بيهودية "إسرائيل" أو تنازلا صريحا عن حق اللاجئين أو تنازلات أخفض من سقف عرفات في كامب ديفيد بخصوص المسجد الأقصى والقدس، أو قد تكون أفكارا عملية تنفيذية تؤدي في النهاية إلى تلك التنازلات الكلية، وهكذا..
الثابت أن فلسطين هي الثمن الدائم، الذي يدفعه العرب، لاستمالة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومع ما بدا خطرا محدقا بسبب سياسات أوباما التي أشعرت هؤلاء العرب بالوحدة في مواجهة الخطر الإيراني، بدأ بعضهم يبحث في إمكانية الاستقواء بقوة إقليمية يتفوقون بها على إيران، وهي -ويا للسخرية مرة أخرى- "إسرائيل"! وذلك فضلا عن أنظمة عربية ذات دور وظيفي في خدمة المصالح الإسرائيلية، مثل نظام عبد الفتاح السيسي!
في هذا السياق، قد يجدر أن نذكّر بقوة أخرى، ليست دولة، ولكنها حركة مقاومة محاصرة، تمكنت من عرقلة المخططات التصفوية للقضية الفلسطينية أكثر من مرة. إنها حماس، المحاصرة بالجغرافيا والحروب، والألصق بسيناء، والأقرب إلى مؤامرة دولة غزة، أو دولة (غزة + سيناء)، والتي لم يكفّ توني بلير عن الاجتماع بقياداتها في السنوات الأخيرة، إذ ثمة محاولة لحشرها في ظرف استدراج بالحيلة أو الترهيب، لكن الوعي والصمود هو ما يعول عليه ليكون لها مساهمة أساسية في عرقلة مثل هذه المؤامرة.