تطرقت في مقال سابق إلى ورشة العمل الأولى للخبراء لتقييم تجربة المصالحة الوطنية في ليبيا، والتي كانت في مطلع شهر سبتمبر الماضي.
وكما سبق الإشارة حضر الورشة نحو 70 مشاركا، والحقيقة أن العديد منهم لا يصنف - في رأيي المتواضع - ضمن الملمين بشكل موضوعي بالشأن الليبي، وليست لهم القدرة على التشخيص الدقيق والتقييم الموضوعي لتجارب المصالحة الوطنية التي كانت في معظمها محلي، وهم أولى أن يكونوا أطرافا في لقاءات المصالحة وليس التقييم.
استجابت البعثة الأممية لهذه الملاحظة وكان أن تمت دعوة نحو 30 في الورشة الثانية، وهو تقدير سليم، قد لا يحقق المرجو بنسبة 100% ولكنه حقق قفزة نوعية في العدد والإمكانيات عما وقع في الورشة الأولى.
فكرة الأمم المتحدة أن الوفاق الوطني سيظل محدود الأثر إذا لم تعضده جهودة وطنية منهجية للمصالحة الوطنية، غير أن الجدل دار في الورشة الأولى حول العلاقة بين المسارين، العملية السياسية والمصالحة الوطنية، وأيهما يسبق الآخر ويمثل الرافد له، وكنت مما يرون المزاوجة والاقتران، فالوفاق يمهد للمصالحة الشاملة، والمصالحة في حال تحققها تعزز الوفاق وتدعمه، وبالتالي لا مناص من الدمج بينهما، على أن يكون الجهد في المسارين حقيقيا وشاملا.
أذكر بأن الورشة الأولى قامت على فكرة التلاقح بين الخبرة والتراكم المحلي في المصالحة الوطنية وبين التجارب الدولية في هذا المضمار، لهذا فقد كانت الورشة الأولى وافرة في عدد الخبراء العرب والأجانب المختصين في المصالحات الوطنية والعدالة الانتقالية، وقدم العديد منهم أوراقا بعضهما معمق ومفيد في المجالين المذكورين، وخلص النقاش إلى توصيات تم البناء عليها لوضع أجندة الورشة الثانية.
الهدف المطروح في الورشة الثانية كان يدور حول وضع إطار لاستراتيجية المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية على المستوى الوطني، وهي مهمة صعبة التحقيق في الإطار الزمني المقرر وهو ثلاثة أيام.
علاوة على مشكلة الزمن المحدود بالمقارنة بحجم الملف فقد تأكد لدى البعض أن الذهاب في هذا المسار ربما لن يكون مجديا في ظل غياب الدولة ومؤسساتها الفاعلة التي تمثل عنصرا أساسيا في تحقيق المصالحة وإنجاح العدالة الانتقالية، لهذا دار جدل حول البحث عن بديل آخر، وكانت وجهة نظري أن نمضي في وضع استراتيجية المصالحة والعدالة الانتقالية كما هو مقرر في الورشة، على أن تكتسب الاستراتيجية من المرونة ما يؤهلها للتطبيق على المستوى المحلي الضيق أو أكثر بحسب ظروف المدن والمناطق.
فكرتي التي طرحتها في الورشة ترتبط بمقاربة سبق أن كتبت عنها وهي "المدينة الدولة" أو "الإقليم الدولة"، وتقوم المقاربة على تفعيل الطاقات والقدرات والإمكانيات على مستوى المدن والمناطق لتسد كثيرا من العجز في الخدمات العامة التي تشرف على تقديمها الدولة عبر الوزارات والمؤسسات العامة.
وعاء المدينة الدولة أو الإقليم الدولة يمكن أن يستوعب استراتيجية المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية بحيث يثم التوافق على تطبيقها والالتزام بجوهرها وآلياتها.
النجاح في تطبيق المصالحة والعدالة الانتقالية على المستوى المحلي أيسر في ظل الظروف الصعبة على المستوى الوطني أو القومي، ويمكن أن تبرز نماذج وتطبيقات يحتذى بها وتكون حافزا لمناطق أخرى مما يسهل المصالحة والعدالة الانتقالية على المستوى الوطني عندما يحين ذلك.
النجاح في هذا لا تقتصر آثاره على المسار الاجتماعي والحقوقي، بل يمثل أساسا يمكن أن تقوم عليه عملية إعادة بناء المؤسسات، فقد تبين أن الارتباط وثيق بين الاضطربات على المستوى المحلي ومستوى الإقليم وبين الاختلال على المستوى المركزي، وقد تأكد فشل محاولات التغيير والإصلاح الفوقي، بينما يمكن أن يكون النجاح أقرب في حال تم الاعتناء بمقاربة المسارين المزدوجين، الأسفل أعلى، والعكس.