تركيا تنفتح على الممانعة وتدعو لرحيل الأسد

يدرك المتابعون للتحركات الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولوزير خارجيته مولود جاويش أوغلو السقف المرفوع الذي وضعته القيادة التركية لنفسها في عملية إعادة وصل ما انقطع مع القوى الإقليمية القديمة والمستجدة في منطقة الشرق الأوسط، فسَلّة الحليف الأمريكي لم تحفظ بيض تركيا بل حاولت تكسيره بانقلاب "بنسلفانيا"، كما يروق لأنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم وصفه، في إشارة إلى مقر إقامة زعيم "الجماعة" فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب العسكري الفاشل في منتصف يوليو الماضي. 

وكان لا بد من الانفتاح على كل القوى الدولية والإقليمية المحاربة في المنطقة، لا سيما وأن نار جماعات العنف المسلح الكردية المسلحة وتنظيم الدولة "داعش" تقترب بوتيرة متسارعة على حدود تركيا مع سوريا والعراق. وتحت وطأة هذا التهديد الحدودي طبّع أردوغان علاقات بلاده مع روسيا، وقبلها مع "إسرائيل" ورفع منسوب التواصل مع إيران على مستويات وزارتي الخارجية والاقتصاد، برغم استمراره في انتقاد الأطماع التوسعية الفارسية في المنطقة العربية.

وفي حركة لا تهدأ يتنقل وزير الخارجية جاويش أوغلو بين عاصمة وأخرى مُبشرا بالسعي لاستعادة تدريجية للقاعدة التي وضعها البروفسور أحمد داوود أوغلو لعلاقات بلاده مع جيرانها ومحيطها والقائمة على صفر مشاكل، والتي تبدّدت مع انطلاق الربيع العربي ورغبة أردوغان في احتضان الحكومات العربية الجديدة المولودة من رحم الثورات.

إلّا أن تدخل القوى الأخرى مثل روسيا وإيران إضافة إلى غموض واشنطن الطارئ في أجندتها حيال ملفات المنطقة، فضلا عن عدم جهوزية تركيا في تركيبتها الداخلية لتوسيع نفوذها، كل ذلك عوامل حالت دون الدور التركي الموعود، وأدت إلى وضع أنقرة استراتيجية جديدة لها تقوم على تمتين صلابة الموقف الداخلي بمؤسساته الدستورية وتضامن الحكم والمعارضة حول ثوابت الجمهورية، وحماية حدود البلاد بالأعماق اللازمة لذلك داخل العراق وسوريا، بالتفاهم مع القوى الاستعمارية الجديدة في البلدين.

وفي إطار المزيد من الانفتاح المتوازن على إيران والاعتراف بأدوارها الجديدة، زار وزير الخارجية التركي الجمعة بيروت مهنئا باسم أردوغان الرئيس ميشال عون على انتخابه، ودعا بعد محادثات مع نظيره اللبناني جبران باسيل إلى استراتيجية أقوى لمكافحة التنظيمات الإرهابية، لكنه شدد في الوقت ذاته على ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن الحكم في سوريا، محملا إياه مسؤولية مقتل 600 ألف سوري.

إنه السقف الجديد للخطاب التركي بشأن سوريا.. يجب أن يرحل بشار الأسد. بغض النظر عن حجم تأثيره الحالي في ما يجري على أرض بلاده وفي أجوائها. وتدرك تركيا أن كلا من موسكو وطهران لا تتمسكان بالأسد رئيسا لسوريا ما بعد الحرب، لكنها تدرك أيضا أن الصعوبة تكمن في اتفاق الشركاء الإقليميين الجدُد المرشحين للسيطرة "القانونية" على سوريا، بحجة حماية كوكب الأرض من الإرهاب، على رئيس جديد يتوزعونه حصصا منسجمة مع حجم تضحياتهم ووجودهم العسكري في سوريا ونفوذهم المتغلغل داخل مؤسسات الدولة لا سيما الحربية والأمنية منها.

لذلك فإن تغيير الأسد في حسابات الروس والإيرانيين وحتى الإسرائيليين عمل غير مربح في الوقت الراهن، ولم تقنعهم تركيا حتى الآن بالفوائد التي ستعود عليهم إذا غيّروا الأسد. علما أن الفوائد التي ينتظرونها لا تملكها تركيا بل الأطراف العربية التي يمكن يتناغم موقفها حيال سوريا مع أنقرة.