يبتهج أنصار الاستبداد في المنطقة العربية (أنصار بشار والسيسي للذكر لا الحصر) بفوز ترامب، حتى يبدو أننا أمام طرف جديد في "محور الممانعة مثلما هو الحال مع أبو علي بوتين"، على أساس أن نواياه أو الأصح نوايا بعض من يحيط به في الدخول في معركة استئصالية مع الإسلام السياسي عموما، في حين أن أساس سياسته ضد الإسلام السياسي تخص أساسا نظرة تحتقر المسلمين احتقارا يشمل هؤلاء الذين يبتهجون به الآن.
الحقيقة أن هناك أساطير حول ترامب ساهم هو نفسه في صياغتها. والأهم أنه إلى حد الآن لا يمكن أن نتحدث عن سياسة منسجمة ومفصلة لترامب في المنطقة العربية وعن فريق واضح يسيرها.
وعموما حتى الآن لا يمكن أن نقول أساسا بأن لترامب فريقا واضحا ونهائيا سيشرف على سياسته للأمن القومي. صحيح أن الرئيس المنتخب يتميز بشخصية فردانية شديدة النرجسية، وقال أكثر من مرة إنه يفهم أكثر من الآخرين. بمعنى آخر ليس من السهل أن تكون مستشارا لدى ترامب، وعدد منهم استقال في خضم الحملة الانتخابية جراء شخصيته المتورمة. لكن لن يستطيع في كل الأحوال أن يحكم وحده، كانت تلك شهوات الحملة.
وقد كلف ترامب "جمهوري معتدل" ممن ساندوه، كريس كريستي حاكم ولاية نيوجيرزي، للإشراف على تشكيل إدارته. لكن الآن تتزايد المؤشرات أن صراعا قويا يقسم صفوف فريقه بسبب ميل كريستي لتعيين "معتدلين" في الحكومة القادمة، ومن ثمة توارد أخبار لتغيير كريستي بشخص آخر. بمعنى آخر لن يتم تشكيل الإدارة في وقت قياسي وبسهولة.
ينسحب هذا الاضطراب في عدم وضوح ملامح فريق ترامب في السياسة الخارجية بما في ذلك المنطقة العربية. والحقيقة أن ما أعلن عنه ترامب فيما يخص سياسته في المنطقة يتسم باضطراب واضح وغياب للانسجام، بما يجعل مهمة الفريق الذي سيعنى بالأمن القومي صعبة للغاية.
لنبدأ بأهم ملامح هذا الاضطراب. أحد أهم ملامح ما أعلن عنه ترامب في السياسة الخارجية هو "إعادة الدفء" للعلاقة مع الكرملين. وإذا حرص على إرسال رسائل إيجابية في قضايا تهم موسكو، مثل الوضع في أوكرانيا، إلا أنه أرسل رسائل متضاربة فيما يخص المصالح الروسية في المنطقة العربية. فرغم أن ترامب أشار بوضوح إلى أنه لا يرى نظام بشار الأسد كخطر أولوي، بما يخلق توافقا مع نظرة موسكو، فإنه يعتبر أن أهم ملف في الشرق الأوسط بالنسبة إليه هو رفض الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة التفاوض حوله.
بمعنى آخر يريد ترامب التقارب مع بوتين، لكنه في الوقت ذاته يريد تضييق الخناق على أهم حلفائه في المنطقة أي إيران. ويريد أن يشكل حلفا ضد "المتطرفين" في سوريا بتنسيق مع روسيا ونظام الأسد، لكنه أيضا يريد فتح مواجهة مع إيران. هذا فقط تعبير عن خاصية عامة في توجهات ترامب وهي شعبوية مفرطة تصل بسهولة إلى متناقضات في السياسات. ولهذا تجنب ترامب عموما الخوض في التفاصيل وتمترس في شعارات عاطفية وحماسية بدائية تدغدغ المشاعر.
والحقيقة أن لترامب "مستشارا للشرق الأوسط" ممثلا في وليد فارس. والأخير معروف بأنه من التمثلات الأكثر خفة وعدوانية مما بقي من تيار المحافظين الجدد، ودافع بشراسة عن احتلال العراق واجتثاث البعث وكل السياسات التي أدت لمزيد من خلق ظروف مواتية لتوسع القاعدة ثم داعش.
وقد سارع فارس للتصريح لأحد الصحف الموالية للجنرال السيسي "اليوم السابع" بعد فوز ترامب بما يلي: "وعن جماعة الإخوان، أوضح فارس أن ترامب يرى أن الإخوان من أخطر الجماعات التي تغذي الفكر الإسلامي الجهادي المتطرف، لذا نريد تمرير مشروع اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، وهو المشروع الذي ظل معلقا داخل الكونجرس لعدة سنوات بسبب عدم تصديق البيت الأبيض عليه، نظرا لأن أوباما كان يدعمهم، وبدورهم عمل الإخوان على إثارة العالم ضد مصر، مضيفا: "سنعمل كذلك على وضع حزب الله فى لبنان على لائحة التنظيمات الإرهابية".
والهستيريا التي يتميز بها فارس تجاه حزب الله ستشكل مشكلا أساسيا أمام أي تقارب ميداني جدي مع الروس في سوريا. ومن الواضح أن ترامب أكثر براغماتية في الواقع من أن يسلم رقبته لشخص مثل فارس.
من الواضح الآن أن "سكرة" الحملة والانتصار ستختفي بسرعة، وعليه أن يشكل فريقا واضحا، وهذا في حد ذاته تحد؛ إذ مثلما نقل موقغ الديلي بيست" قبل يوم نقلا عن أحد عناصر فريق ترامب: "وقالت إنه سيكون صعبا جدا شغل المناصب؛ لأن جميع من لديه خبرة لم يكن أبدا مواليا لترامب"، ونقل المصدر نفسه: "لست على يقين من أن نكون قادرين على تشكيل الفريق الانتقالي، ناهيك عن العثور على أشخاص للعمل في المناصب الحكومية. نظريا، من المفترض مثلا إيجاد عشرين شخصا لإرسالهم إلى وزارة الأمن الداخلي [خلال الفترة الانتقالية بين إدارتين]. وأنا لا أعتقد أن لديهم أي شخص للقيام بذلك."
للتذكير هنا فقد، أمضى خلال الصيف الماضي عشرات المسؤولين السابقين من الخارجية والدفاع ذوي الميول الجمهورية رسالتين يتبرؤون فيها من ترامب، ويدعون بوضوح لعدم انتخابه وأنه لا يصلح لشغل منصب الرئيس. والآن ليس أمام ترامب من خيار إلى استمالة عدد منهم لشغل مناصب ضرورية في إدارته. وحتى إن كانت الأسماء المرشحة الآن لمنصب وزير الخارجية، مثل نيوت غينغريتش وجون بولتون، هي من التمظهرات المتطرفة لليمين الأمريكي، فإنه سيضطر للبحث أكثر في شخوص تميل أكثر للوسط.
ولعل الجنرال المتقاعد مايكل فلاين الذي يعد من القلائل من الوسط العسكري الذين انضموا لترامب، وهو مرشح بقوة لمنصب وزير الدفاع بشكل هو من يمكن أن يشكل ميلا أكثر للوسط. غير أنه سيطرح تحديا على انسجام فريقه؛ إذ إن تصريحاته الأخيرة مباشرة بعد الفوز، التي تمثل رسائل إيجابية تجاه أردوغان والحكومة التركية، على النقيض من ميولات شخوص مثل غنغريتش التي هي أساسا على يمين مواقف نتناياهو أصلا، وبالتالي لن تكون مرتاحة لأي تقرب مع
تركيا الراهنة. بالإضافة إلى ذلك علينا أن نتذكر أن مراكز النفوذ للحزب الجمهوري، التي تحداها ترامب، لم تخسر المعركة تماما؛ إذ تسيطر الآن على الكونغرس.
باختصار أهم خصم لترامب الآن هو مراكز النفوذ التابعة للجمهوريين في الخارجية والدفاع والكونغرس، التي لن تتركه يفعل كل ما يشتهيه، وعليه أن يجد معها "صفقة". فهو المعروف بكتاب "فن عقد الصفقات" وبصفته رجل أعمال سيسعى وراء "الربح" (السياسي هنا)، وهو ليس صاحب عقيدة حتى يتصرف بشكل دوغمائي.
أختم أخيرا بتونس، إذ ليس انتخاب ترامب هو المعطى الذي يحتاج تركيزا، بل ما يحتاج ذلك هو إعادة انتخاب السيناتور جون ماكين (وكان أمرا متوقعا طبعا). هو وغيره من أوساط بيروقراطية نافذة في الخارجية والدفاع من يمسكون فعليا الملف التونسي، لهذا من غير المتوقع أن يحصل تغير نوعي فيما يخص سياسة واشنطن تجاه تونس.