أهم ما يمكن رصده اليوم مع اشتداد حمّى الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو حضور المكون العربي المسلم بقوة في مختلف التجاذبات السياسية التي تعرفها باريس.
العرب والمسلمون حاضرون بشكل قاعدي في الخطاب السياسي الأوروبي عامة والفرنسي بشكل خاص لما تمثله مسألة الهوية ومسألة الهجرة والإرهاب من أوراق انتخابية حاسمة يمكن استثمارها بشكل فعال لجلب أصوات الناخبين من أقصى
اليمين خاصة. ولم تكن العمليات
الإرهابية التي شهدتها الساحة الفرنسية خلال الأشهر الأخيرة وتدفق أعداد الهاربين من الجحيم السوري إلا محفزا لخطاب اليمين المتطرف الأوروبي والفرنسي الذي يستثمر في مصائب الأضعف اجتماعيا وديمغرافيا.
لكن الجديد في خطاب اليمين المتطرف الذي يعبر عنه "حزب الجبهة الوطنية" بقيادة ابنة زعيم الحزب "مارين لوبان" هو التركيز الكثيف في المدة الأخيرة على منطقة الخليج العربي كعنصر مركزي في حملتها الانتخابية.
السيدة "لوبان" كغيرها من الساسة الفرنسيين تتحدث "باسم فرنسا" فتطلب من ضمن ما تطلبه "قطع العلاقات مع السعودية وقطر" و"تكوين حلف لمواجهة الأصولية الإسلامية التي يعتبر الإخوان المسلمون أحد جذورها وذلك بالتحالف مع الإمارات ومصر وروسيا"، كما عبّرت عن ذلك في أكثر من لقاء تلفزي وإذاعي بنفس الحماس وبنفس التصنيف.
التهجم على دولة قطر ليس جديدا في فرنسا وقد هدأ نسبيا منذ سنتين تقريبا مقارنة بالسنوات التي تلت الربيع العربي وبسبب دعم قطر اللامحدود لثورات الشعوب وهي ثورات رأت فيها قوى النهب العالمية تهديدا مباشرا لمصالحها ونفوذها ووكلائها. فكان استعداء قطر وشيطنتها في الإعلام
الغربي والعربي ضربا لخطوط إمداد الثورات إعلاميا ودبلوماسيا وماديا أي أن الشيطنة لم تكن تستهدف دولة قطر لذاتها بل تستهدف موقفها من الثورات العربية أساسا.
أما الهجوم على السعودية من قبل اليمين المتطرف فقد أخذ منحى تصاعديا جديدا بسبب غياب الاستهداف المباشر للمملكة في الأدبيات التقليدية لليمين العنصري إلا بقدر ما تحمله من رمزية عربية إسلامية أو لشيطنة الصورة العربية بالتركيز خاصة على ظاهرة البذخ والترف. لكنّ تطور الخطاب اليوم يحمل في طياته موقفا من التحول المفاجئ في سياسة الملك سلمان تجاه الكثير من ملفات المنطقة وخاصة حرب الإبادة التي تشنها القوات الروسية والإيرانية والأسدية الطائفية على الشعب السوري وعلى المكوّن السنّي بشكل خاص.
فبعد أن تحصل اليمين العنصري على قرض روسي بما يزيد عن عشرة ملايين دولار سواء في الانتخابات الأوروبية أو في الانتخابات الأخيرة تحول حزب الجبهة الوطنية إلى أكبر مدافع عن جرائم بوتين في سوريا وفي كل مكان. وبناء عليه صار استهداف المملكة العربية السعودية جزءا من الخطاب الانتخابي للمرشحة اليمينية المتطرفة وهي تجمع في تضليل واضح بين الأصولية الإسلامية ـ كما تسميها ـ وبين الإخوان المسلمين في مصر وبين "داعش" والجميع في سلة واحة تضاف إليهم قطر بطبيعة الحال.
فبقطع النظر عن بؤس هذا الخطاب فإن تحول السياسة السعودية الخارجية تجاه مجمل القضايا الدولية وخاصة قضايا المنطقة قد دفع الأحزاب السياسية الغربية إلى الاستثمار في هذا التحول وجعله جزءا من خطابها السياسي.
لكن الصدمة الأكبر جاءت عبر تسريبات مختلفة عبرت عنها مثلا الكاتبة "مارين تورشي" في موقع "ميديا بارت" الفرنسي الشهير حول تمويل الإمارات للحملة الرئاسية لليمين المتطرف واستعداد الإمارات لمدّ حزب الجبهة الوطنية بما يحتاجه من المال لتمويل حملته الانتخابية "شرط قطع العلاقات مع دولة قطر" كما عبرت عن ذلك كاتبة المقال.
من السهل جدا استنتاج تناسق خطاب اليمين المتطرف الفرنسي مع الخطاب السياسي لمرشحين آخرين مثل المرشح اليميني "برينو لومار" الذي طالب بالطلب نفسه على أمواج إذاعة أوروبا الأولى في بداية هذا الشهر حيث طالب بمراجعة العلاقات مع قطر ومع السعودية ـ دون الحديث عن قطعها ـ مادحا دور الإمارات ومعتبرا إياها شريكا استراتيجيا ضد الوهابية الأصولية وضد داعش.
كثيرة هي الرسائل التي يبعثها خطاب اليمين المتطرف الفرنسي وهو يقتات على آلام المهاجرين وعلى كراهية المسلمين وهو يسترزق يمنة ويسرة على موائد من يدفع أكثر من العرب لشيطنة إخوانهم في الدين وفي الأرض.
فدفاع حزب الجبهة الوطنية عن النظام الانقلابي رغم كل جرائمه في حق الشعب المصري وفي حق حرية التعبير وفي حق ثورة يناير قد يُفهم ويُبرّر في إطار استجابة النظام الانقلابي للمصالح الفرنسية عبر صفقات الأسلحة من الطائرات وحاملات الطائرات وغيرها من الصفقات غير المعلنة. أما دفاع الحزب عن مجرم الحرب بوتين رغم كل جرائمه في سوريا فيُفهم أيضا في إطار الصفقات المالية للحزب وفي توافق المصالح الروسية مع مصالح الحزب وهي مصالح معادية للمسلمين السنّة بشكل خاص وهم من تستهدفهم الطائرات الروسية وفرق الموت الإيرانية بشكل خاص في بلاد الشام.
لكنّ ما يستعصي عن الفهم هو الدفاع المستميت لحزب الجبهة الوطنية عن دولة الإمارات التي اشتهرت بعدائها لحركة الإخوان المسلمين وبحربها على ثورات الشعوب وعلى ربيع المسحوقين ودعمها للقوى الانقلابية في المنطقة العربية. فإذا كان الإعلام الفرنسي قد جعل من الهجوم على قطر خبزا يوميا باعتبارها مدافعا شرسا عن قوى التغيير العربية فإنه يعرف اليوم تحولا جديدا باستهداف المملكة العربية السعودية وربطها بالإرهاب وشيطنة التيار الوهابي.
الغريب في المشهد كذلك هو غياب إيران عن الخطاب السياسي الفرنسي بشكل مطلق تقريبا فرغم كل الجرائم التي ارتكبتها فرق الموت الإيرانية في سوريا والعراق واليمن ولبنان ورغم التدخل العسكري المباشر لآلاف المليشيات الفارسية هناك صارت إيران خبرا منسيا وملفا مسكوتا عنه في الحيز الإعلامي الأوروبي بشكل يبعث على الريبة.
الثابت أن الملف العربي والورقة العربية ستبقى طويلا حاضرة في تجاذبات السياسة الدولية لا الفرنسية فحسب وهو ما يحتم على المكوّن الخليجي خاصة توحيد سياسته الخارجية وتجاوز المزايدات الذاتية التي سمحت لأعداء القضايا العربية بابتزازهم واستنزاف ثرواتهم.
نحن اليوم جميعا في عين العاصفة والتمدد
الإمبراطوري من
الشرق والغرب على أرض العرب لا يخفى على أحد وهو ما يحتم على القوى العربية الفاعلة وخاصة المملكة العربية السعودية إعادة ترتيب البيت الخليجي في مرحلة أولى بشكل يحدّ من التصدعات التي لم ينتفع منها غير أعداء العرب والمسلمين مشرقا ومغربا.